بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
قبل عشر سنوات بالتمام والكمال، تعرضت عيني اليمنى الى وضع صحي خطير، تمثل بنزيف دموي مفاجئ أغلق الرؤية فيها تماماً، حتى كدت أفقد بصري. ولعل الأمر الذي أرعبني وقتها، أن لنا في العائلة تأريخاً وراثياً بصرياً مفجعاً، ومشاكل لا تعد ولا تحصى في أمراض العيون، بحيث كان ( العمى ) إرثاً متواصلاً نتوارثه في العائلة جيلاً بعد جيل. فقد أصيب جدي بفقدان البصر، ثم جاء الدور لوالدي رحمه الله الذي أصيب بالعمى التام في آخر أيامه، وكذلك عمي، وعمتي اللذان أصيبا بالعمى أيضاً، بينما درجة نظر شباب العائلة اليوم 6 / 6000 ، وحتماً فإن أي شخص سيصاب بالذعر، لو تذكر هذا الإرث الكارثي !! في ذلك الصباح المحبط من أيام نهاية السنة، نهضت من نومي وأنا أشعر بشيء غير طبيعي في عيني اليمنى، إذ شعرت كأنها تقطر دماً، والرؤية فيها شبه معدومة، إلّا من صور هلامية بعيدة، وأظن أن الحظ خدمني، حين أصبت بهذا العارض البصري الدامي وأنا في أمريكا وليس في العراق، لأن الأمريكيين -حكومة وشعباً ومؤسسات – ينظرون إلى مرضى الطوارئ ، خصوصاً ذوي الحالات المستعجلة، نظرة خاصة، ويتعاملون معهم تعاملاً استثنائياً يكاد يكون مقدساً، يعني بالضبط مثل الرعاية (المقدسة) التي يحظى بها المرضى الراقدون على ( سديات) وأسرّة أقسام الطوارئ في المستشفيات العراقية لاسيما الحكومية منها - !! ومن أجل تلك الخدمة الباهرة و الخصوصية جداً، هرعت إلى المستشفى في مدينتي الأمريكية بسرعة ودون أي تأخير أو تفكير . وبعد سلسلة طويلة من الفحوصات الدقيقة، والتحاليل المتنوعة، والصور الملونة عبر أحدث الأجهزة المتوفرة في قسم الطوارئ، توصل الأطباء الى إصابتي بجلطة العين (ستروك).. وجلطة العين هي عارض يحصل بسبب انسداد الوريد الشبكي المركزي، فيسبب نقصاً في الرؤية أو انعداماً تاماً، وغالباً ما يحدث في عين واحدة، لكنه يأتي دون ألم، أو احمرار ظاهر في العين، مع وجود نزيف بالشبكية، بحيث تبدو داخلياً وليس خارجياً، كأنها مصبوغة بالصبغ الأحمر .. وقد يصاحب هذا العارض ارتفاع في ضغط العين، الذي يتلف العصب البصري، إضافة لوجود الماء الأزرق، المعروف طبياً بـ ( الجلوكوما ) ! وهنا أشار عليَّ أحد الأطباء الأمريكيين بالتوجه فوراً لعيادة الدكتورة الأمريكية، والإيرانية الأصل (نسرين ماني)، فهي طبيبة فاخرة جداً، ومتخصصة في مشاكل ( الشبكية ).. ذهبت في اليوم الثاني لعيادتها الكبيرة جداً. وبعد أن ملأتُ استمارة البيانات، والمعلومات المطلوبة، التي أجبت فيها على أكثر من ثلاثين سؤالاً مكتوباً، من بينها سيرتي الطبية والحياتية الكاملة، مع أسئلة عديدة ومفصلة عن الوضع الطبي للعائلة، استقبلتني الطبيبة (نسرين) بوجهها الجميل وطولها الفارع، وابتسامتها التي تشبه الى حد كبير ابتسامة المغنية الإيرانية الفاتنة (گوگوش). وبعد أن انتهت من فاصل المجاملات، وسؤالي عن الوضع في العراق، بدأت الفحوصات الدقيقة والتقاط الصور للعين.. هل تصدقون مثلاً لو قلت إن جهازاً صورياً التقط ثلاثة آلاف صورة داخلية لعينيَّ خلال دقيقة؟ وبعد أن انتهت الطبيبة من فحوصاتها، التي استغرقت سبع ساعات، ابتسمت وقالت لي: لا تخف فأنت لن تعمى، ولكن بشروط !! فصحت من فرط سعادتي: اشرطي يا دكتورة فكل شروطك مقبولة . قالت: اولاً أن تترك التدخين حالاً.. فقلت لها: اعتبريه مقطوع. قالت: وأن تترك الخمر ايضاً، مع السماح بشرب كأس واحدة من ( الواين ) الأحمر فقط.. قلت لها: لقد تركته منذ سنين ولم يبق سوى هذا الكأس من الواين الأحمر !!. قالت: وأن تلتزم باستخدام قطرة العين ثلاث مرات يومياً، والى الأبد.. قلت لها: تتدللين خانم .. قالت: ولا تبكِ قط، لأن البكاء مدمرٌ للعين.. قلت لها: سأحاول ذلك رغم صعوبة الطلب .. قالت: بل ستفعل، وليس تحاول فقط قلت لها: (صار دكتورة ).. ثم قالت: وإياك أن تسهر حتى الفجر، أو تجلس خلف الكومبيوتر ساعات طويلة.. واحذر من المنشطات (....)، لأنها ترفع ضغط العين.. قلت لها: (أوكي).. قالت: ختاماً، وكي لا تعمى مثل أبيك وعمك، أرجو أن لا تتوتر، ولا تتعصب، ولا تهتم لأي أمر كان، بمعنى أن تكون (ريلكس) دائماً مهما كانت الظروف ! فنهضت من الكرسي، وقلت لها: لا دكتورة.. ارجوك أن تعذريني من تنفيذ هذه النقطة فقط.. فأنا مستعد لتنفيذ كل ما تفضلت به من شروط، إلّا موضوع التوتر.. لأني لا أستطيع السيطرة على أعصابي في العراق.. قالت: لماذا لا تستطيع ذلك، وهو جزء من علاجك، فأنا مثلاً استطيع السيطرة على اعصابي حتى في أسوأ الظروف.. قلت لها: نعم تستطيعين انت ذلك، لأنك تعيشين في أمريكا، وليس في العراق. فضحكت وقالت: وماذا في العراق؟ قلت لها: في العراق بلاوى ومصائب وكوارث سياسية وغير سياسية لا يمكن لأي عراقي أن يحافظ فيها على برودة أعصابه مهما كان ( فاهياً ) ولا أبالياً .. مطّت الطبيبة شفتيها وقالت بطريقة غاضبة: إذن ستعمى يا رجل ..! وبعد عشر سنوات من النسيان، تذكرت نصيحة الطبيبة ( نسرين ماني ) أمس، وأنا أرى عبر شاشة التلفاز، ثلثي أعضاء مجلس النواب العراقي يصوتون للسيد هيبت الحلبوسي رئيساً للبرلمان !! لا وتجيك وحدة بطرانة تگلك لا تتوتر ، وحاول تحافظ على أعصابك !
*
اضافة التعليق
يا مسيحيي العراق : بدونكم لن يكون العراق عراقا أبدا
ماذا لو لم تكن في حياتنا كرة قدم ؟!
مريم .. وزنزانة ( الزمن الجميل ) ..!
بين ( كأس ) المنصب و ( شرف الخصومة) ..!
سؤال إلى الحزب الشيوعي : هاي الناس تهابك ليش ؟
لماذا يثقون بالسوداني؟