بغداد- العراق اليوم:
كتبت جريدة الحقيقة في عمودها الإفتتاحي هذا المقال .. نعيد نشره هنا لما فيه من أهمية ورأي:
دبلوماسية السوداني.. القوى الناعمة تنزع مخالب الحرب عن العراق
رأي الحقيقة
فيما تشتعل المنطقة برمّتها، وتلتهم النيران كل ما أمامها، دون أن تترك جغرافيا محددة آمنة، ولا تفرّق آلة الحرب بين محايد أو صديق، يبدو المشهد في العراق هو الأهدأ. ويبدو أن ما يشبه المعجزة يحدث في أرض السواد. فكيف نجت هذه البلاد من أتون هذا العصف الذي لا يكاد يُبقي ولا يذر؟
في الواقع، كانت كل الدلائل، منذ السابع من أكتوبر 2023، تشير إلى أن العراق سينزلق لا محالة إلى قلب العاصفة. واعتُبر آنذاك الأرض الرخوة التي ستُستخدم كمحطة لامتصاص الصدمات العنيفة بين الفرقاء الدوليين الذين يختبرون صبر بعضهم البعض، وسيكون العراق تقاطعاً محتملاً للضربات من جميع الاتجاهات.
كل هذه التحليلات لم تكن بطبيعة الحال من فراغ أو من نظرة متشائمة، بل استندت إلى معطيات واقعية. فالعراق يمتلك مناخاً سياسياً هشاً، تتصارع فيه إرادات داخلية مرتبطة بالخارج بشكل أو بآخر، كما أن النفوذ المتعدد فيه ظل قائماً بسبب غياب الناظم الوطني، وضعف الفاعل السياسي، وتكاسله عن استكمال متطلبات السيادة الوطنية. أضف إلى ذلك تأثيرات جيوسياسية واضحة؛ فالعراق ليس جزيرة معزولة، بل هو قلب الشرق الأوسط، ومحط أنظار القوى الدولية.
كما أن العراق عاش عقوداً من الاضطراب السياسي، وخاض ثلاث حروب كبرى على الأقل، انتهت باحتلاله في العام 2003. ولا يزال التوافق الوطني الداخلي في طور التشكّل، إذ لا تزال الحاجة قائمة إلى فهم متبادل للمصالح بين المكونات، ولا تزال الهوية الوطنية تختمر على أسس جديدة، غير قسرية، بعد أن كانت الأنظمة العسكرية الديكتاتورية السابقة تفرضها بالقوة.
كل ذلك جعل العراق هدفاً مرشحاً بشدة ليكون ساحة صراع إقليمي، إلى درجة أن بعض الطامحين للسلطة، ومجموعات من فلول حزب البعث المحظور، بدؤوا بالتحضير علناً للعودة إلى المشهد، ظناً منهم أن سيناريو أفغانستان قد يتكرر في العراق.
لكن هذه التهديدات الوجودية والمخاوف العالية، كانت حاضرة في حسابات رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي انتهج دبلوماسية ناعمة وهادئة، قائمة على ركيزتين أساسيتين، عمل عليهما بذكاء ومهارة.
ففي الداخل، عمل السوداني على إعادة بناء الثقة المفقودة بالنظام السياسي، وهي الثقة التي تآكلت بفعل سنوات طويلة من الفساد ونهب الموارد العامة، وتراكم الفشل الحكومي، خاصة في الجوانب الخدمية، التي أججت مشاعر الغضب الشعبي. هذا بالإضافة إلى آلة إعلامية مضادة كانت تصوّر الواقع العراقي بشكل سوداوي، وتقلب الإنجاز إلى فشل في عيون الناس.
أما على صعيد الملفات الخارجية، فقد تمكن السوداني من إبعاد العراق عن حافة الصدام الإقليمي، من خلال توحيد خطاب الدولة، ومنع التشرذم، وإعادة قرار الحرب والسلم إلى يد الدولة العراقية. كما نجح في تحييد بعض الفصائل المسلحة عبر اتفاق وطني شامل، أنهى مهمة التحالف الدولي في العراق، وضَمن انسحاباً مسؤولًا للقوات الأجنبية.
واتخذ السوداني قرارات مهمة لتوطيد العلاقات مع دول الجوار، ووسّع التفاهمات مع الشركاء الدوليين، مما أعاد إلى العراق موقعه الإقليمي والدولي كمحاور موثوق.
وقد تُوّج هذا النجاح الدبلوماسي مؤخرًا بتصويت مجلس النواب الأمريكي على إلغاء التفويض الممنوح للرئيس الأمريكي بشنّ الحرب على العراق دون الرجوع إلى الجهات التشريعية، في إشارة واضحة إلى أن الولايات المتحدة باتت تعتبر العراق دولة شريكة، لا خصمًا.
هذا النجاح الدبلوماسي يأتي في وقت يحصد فيه السوداني ثمار نجاحه على الصعد السياسية، والخدمية، والاقتصادية، والدبلوماسية، وهي منجزات بات يلحظها الخصم قبل الصديق.
*
اضافة التعليق