هندسة الإحباط الجماعي: هكذا يطفئون شموع الأمل؟

بغداد- العراق اليوم:

جاسم الحلفي

لم تعد الخيبة في العراق عرضاً جانبياً أو ثمرة عجز، بل تحوّلت إلى سياسة ممنهجة، وأداة بيد طغمة الحكم لإخماد أي وعي جماعي لضرورة التغيير. إنها هندسة لخيبات مصاغة بدهاء خبيث، تُمرَّر على مراحل، وتُكرّس بوصفها الواقع الوحيد الممكن، في محاولة لقتل الأمل من جذوره وتجفيف منابع الفعل الجماعي. فالمنظومة الحاكمة، ومنذ أكثر من عقدين، لا تكتفي بصناعة الفشل، بل تعيد إنتاجه بوصفه نتيجة طبيعية.

كل حركة احتجاجية تُقابَل بالقمع أو بالتفكيك، وكل مبادرة إصلاح تُفرَّغ من مضمونها بالتسويف، وكل فضيحة فساد مهما بلغت بشاعتها، تُطوى لا بالمحاسبة، بل بدهاء التواطؤ. وحين تزكم رائحة النهب الأنوف، كما في فضيحة "سرقة القرن"، فالتحقيق لا يُطال شركاء الجريمة من كبار المتنفذين، بل يُشرَّع عفو عام لحمايتهم، كي لا تنكشف بُنيَة النهب الممنهج.

أما الانتخابات، التي يُفترض أن تكون وسيلة للتغيير، فقد تحوّلت إلى ساحة يُنفق فيها المال السياسي ببذخ، دون سقف محدد، ومن دون تفعيل فعليّ لقانون الأحزاب، أو رقابة على مصادر التمويل. وبدل أن تُضبط الحملات الانتخابية بقواعد شفافة، تُدار وفق منظومة مصمّمة بعناية لضمان استمرار هيمنة القوى المتنفذة، ومنع صعود أي تمثيل حقيقي للقوى الاجتماعية المناهضة للمحاصصة والفساد. وهكذا يتحوّل الاستحقاق الانتخابي من فرصة للمحاسبة والمساءلة، إلى طقسٍ شكلي يعيد إنتاج الطغمة ذاتها، بوجوه مكرّرة ومراكز نفوذ لا تتبدل.

والنتيجة: وعيٌ منهك، ومجتمعٌ يُسرق منه الحلم، وكادحون يُرغَمون على التأقلم مع الحرمان، لا لأنهم اختاروه، بل لأن الطغمة الحاكمة أطفأت آخر شموع الأمل. لكن الأخطر من ذلك، أن هذه الطغمة لا تمارس القمع وحده، بل تخوض معركة نفسية طويلة المدى. تُشيطن البدائل، وتُشيع أن الجميع فاسد، وتُقنع الناس أن لا فرق بين نظام وآخر، وأن الخراب قدر، وأن اللاجدوى قانون.

وبينما تتّسع البطالة، وتتآكل الخدمات، تتصرّف الدولة وكأنها غير معنية بشيء. تُسحق الطبقات الكادحة والمهمّشة في دوّامة من الغلاء والعوز والفقر والامراض، بينما تُواصل الطغمة الحاكمة احتكار الثروة والقرار، دون خجل ولا مساءلة.

ومع كل هذا، لا يُطفئ الإحباط جذوة العدالة. بل يُراكم الغضب الكامن، ويُعيد صياغة الوعي، ويُربّي جيلاً جديداً يرى، ويسأل، ويقارن، ويكتشف أن الكارثة ليست في الناس، بل في منظومة فساد تُهيمن على الاعلام وكل شيء، وتضع العراقيل امام قوى التغيير كي لا يكون لها صوت أو موقع في القرار.

نعم، قد تنجح السلطة مؤقتاً في نشر الإحباط، وترسيخ الخذلان، وتكريس اللاجدوى. لكن التاريخ لا يُدار بالخداع وحده. فحين يتقاطع الإحباط مع الكرامة المهدورة، ينهض المنهكون من بين صفوف الطبقات المسحوقة، وفي مقدّمتهم الشباب التوّاق للتغيير، لا كصرخة عابرة تُطفئها المناورات، بل كقوة جذرية تحمل مشروعاً يعصف بمنظومة الخراب.

حينها، لن تُجدي إصلاحات اللحظة الأخيرة، ولا لجان التسكين، ولا أدوات تجميل القبح السياسي. فهذا الإحباط المُصنّع .. هو نفسه من سيطيح بصانعيه.

علق هنا