بغداد- العراق اليوم:
في مقالة لافتة، كتب الدكتور جاسم الحلفي، مقالاً مطولاً، عن مسلسل معاوية بن أبي سفيان الذي عرض أخيراً من على قناة الام بي سي السعودية، و الذي أثار جدلاً كبيراً في الأوساط الثقافية و الدينية.
الحلفي تناول هذا المسلسل بمشرط الناقد المطلع، و يعيد العراق اليوم نشر هذا المقال نقلاً عن الزميلة جريدة الحقيقة: دراما السلطة لتأبيد التسلط وتزيين التوريث قراءة فيما وراء السرد الدرامي لمسلسل "معاوية"
جاسم الحلفي ليست هذه الدراسة، رداً فنياً أو تقنياً على مسلسل "معاوية"، فلست مختصاً بتقييم الإخراج أو الأداء التمثيلي أو استخدام التقنيات الحديثة، كما أنني لا أقترب من المقدّس الديني أو أطمع في التطفّل عليه، فذلك ليس من أهدافي، ولا من مقاصد هذه الدراسة. لم يكن مسلسل "معاوية" مجرّد قراءة متأخرة لحاكمٍ مثيرٍ للجدل، بل كان خدعة بصرية لإعادة هندسة الوعي، يُراد من خلاله أن يغدو الاستبداد فضيلة إذا ما استتب، وأن يُرى في المداهن السلطوي رجلُ دولةٍ حصيف، ما دام يُتقن لعبة التوازنات، ويحفظ لأزلام السلطة امتيازاتهم، ولو على حساب حقوق المواطن وكرامته. خطابٌ يُنحت بعناية لتزيين القهر، ويؤسّس لشرعيةٍ خادعة، تُدار إمّا بالوراثة المموهة، أو بالديمقراطية المزوّقة، حيث تُفرَغ الانتخابات من معناها، وتُعلَّب إرادة الناس في صناديق الاقتراع، أو في مشهدٍ درامي مكتمل الإضاءة. المسلسل يُعيد إنتاج خطاب سلطوي يتكرر اليوم في الإعلام الرسمي، والمناهج، وخطب الجُمع، حيث يُجرَّم الاحتجاج، وتُختزل المعارضة في تهمة إثارة الفوضى وتهديد الاستقرار. الخطورة أن هذا الخطاب يمتد من الماضي إلى الحاضر، يمنح أنظمة الحكم غطاءً دينياً، ويؤسس لشرعية زائفة تُدار بالوراثة، وتُحصَّن بالمال والطائفية السياسية والقمع. وهو النموذج الذي تتبناه اليوم أنظمة الإسلام السياسي، السنية والشيعية، تحت شعار الواقعية والعقلانية، بينما تُصادر إرادة الناس وتُخنق الأصوات. إن استدعاء معاوية لا يندرج ضمن استحضار شخصية تاريخية فحسب، بل يُعيد إنتاج نموذجٍ سلطوي يُجمّل التسلط، ويُعطّل العدالة، ويُلبس الاستبداد ثياب الحكمة والرشد. ومن هنا تبرز ضرورة تفكيك هذا الخطاب، باعتباره مهمة فكرية وأخلاقية، لتحرير الوعي من سطوة استبدادٍ يتدثّر بالدين ويتحصّن بالخوف من الفتن. ها هو "معاوية" (ابن أبي سفيان، قائد المشركين يوم أحد ويوم الخندق، وهو ابن هند التي أغرت بحمزة حتى قُتل، ثم بقرت بطنه، ولاكت كبده)1 يُقدَّم في المسلسل اماماً للمتقين وخليفة للمسلمين، و رجل الدولة، والعقل الراجح، الموحّد الحكيم. تصوّره الدراما بوصفه صانعاً للاستقرار، وتغضّ الطرف عن تحالفاته العميقة مع العصبيات القبلية، ومصالح الطبقة الغنية، وثروته الهائلة التي راكمها من إماراته التي امتدت منذ عهد عمر بن الخطاب، (الذي أقامه حاكماً على الشام، ووثّق علاقات حسنة مع الفئات النافذة والغنية في سورية، وذلك بمراعاته التامة لمصالحها الطبقية)2. تسعى هذه الدراسة أن تكون منصفة، دفاعاً عن ذاكرةٍ أُقصيت، وصرخةٍ لا تزال معلّقة في عنق كل من يقرأ التاريخ بعين الفقراء لا بعين المستبدين.
في مواجهة إرهاب التهمة.. قراءة علمية في زمن التخندق المذهبي ولكي أقترب من الموضوع بنزاهة فكرية، فقد اعتمدت في هذه الدراسة على نظريات الحركات الاجتماعية ومناهجها كأساس للتحليل، متجنباً أي مصدر طائفي أو منحاز إلى اتجاه مذهبي. واستندت إلى مراجع ذات طابع تحليلي وعقلاني، في مقدمتها كتاب "الفتنة الكبرى" للدكتور طه حسين، الذي لا يُحسب على أي تيار ديني أو طائفي، بل يُنسب إلى تيار العقل، وتحديداً إلى المنهج الديكارتي القائم على الشك المنهجي والتحليل العقلي. كما استعنت بكتاب "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" للشهيد الدكتور حسين مروة، واستفدت من قراءات المفكر الراحل هادي العلوي، خاصة كتاب "الاغتيال السياسي في الإسلام"، الى جانب تحليله لآليات السلطة وتاريخ العصبيات، وكذلك كتاب "أبحاث في التاريخ الإسلامي" للدكتور جواد علي. وقد اخترت هذه المصادر تحديداً لأنها تنأى عن الطائفية، وتقترب من العقل النقدي، خاصة أن تهمة "الطائفية" باتت سيفاً مسلّطاً على كل من يقترب من نقد التاريخ، حتى وإن كان بعين العلم والإنصاف. مسلسل "معاوية" الذي عُرض في رمضان 2025، من إنتاج مجموعة MBC، تولى إخراجه كل من طارق العريان وأحمد مدحت، بينما كتب السيناريو الصحفي خالد صلاح. تناول المسلسل سيرة معاوية بن أبي سفيان، منذ نشأته في كنف والده أبي سفيان، وموقف العائلة من دعوة النبي محمد في بداياتها، ثم تحوّلهم إلى الإسلام، مروراً بالمحطات السياسية المفصلية، من أبرزها أحداث الفتنة الكبرى واغتيال الخليفة عثمان بن عفان. غير أن المسلسل قدّم هذه الأحداث من زاوية واحدة، اختزلت ما جرى في رواية المؤامرة، وتجاهلت السياقات الاجتماعية والسياسية التي سبقت الاغتيال. سعى المسلسل عن قصد إلى تشويه الحركة الاحتجاجية، وتغييب أهدافها الجوهرية المتمثلة في التصدي لمظاهر الاستحواذ على المال العام والتصرف به بغير حق. وقدّم تلك الحركة وكأنها فوضى غوغائية، بينما كانت في حقيقتها تمرداً اجتماعياً واعياً، لم يستهدف تغيير الخليفة بحد ذاته، بل استهداف منظومة الامتياز التي رسّخت توزيع المناصب والثروات على أساس القرابة والولاء، بدلاً من الكفاءة والعدالة. اذ كافحت الحركة الاحتجاجية من أجل (تغيير السياسة كلها، وتغيير العمال قبل كل شيء)3، تعمّد المسلسل اختزال الوقائع التاريخية في سردية مشوشة وخادعة، أقصت الخلفيات الطبقية والاقتصادية التي دفعت سكان الولايات إلى الاحتجاج، وقدّم تلك المرحلة وكأنها مجرد اضطراب دبّرته جهات مبهمة، لا تعبيراً عن حركة اجتماعية واعية حملت مطالب تغيير حقيقية في بنية الحكم وتوزيع الثروة. عرض المسلسل اندلاع الصراع بعد اغتيال عثمان، بين الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية، الذي رفض مبايعة الامام دون شرط تسليمه قتلة عثمان. بينما كان الإمام، بحسب ما وثّقه طه حسين: (لا يعرف لعثمان قاتلاً بعينه، ولا يقدر على أن يسلِّم إلى معاوية جميع من ثاروا بعثمان حتى قُتل)4. وهكذا، حجب المسلسل تعقيد اللحظة التاريخية، واختزلها في سردية سلطوية تبرّر تحرّك معاوية، وتُقصي دوافع الاحتجاج الجماهيري، وحجم الانقسام الفعلي داخل المجتمع الإسلامي المبكر.
من التنازل إلى التوريث.. المسكوت عنه في سردية الصلح جرى تغييب الإمام الحسين تماماً عن المشهد الدرامي في مسلسل "معاوية"، ولم يُمنح سوى ظهور يتيم في مشهد الدفاع عن عثمان أثناء الحصار، في محاولة لحصر حضوره في دور الحماية لا المشاركة الفاعلة في التصدي لحكم معاوية وتوريث يزيد. في المقابل، حظي الإمام الحسن بحضور واضح، لكنه صُوِّر كصاحب مبادرات تسوية، يعرض على والده خيارات المصالحة والتنازل، في ترويج ضمني لخطاب "التطبيع" الناعم الذي يسود في إعلام الأنظمة هذه الفترة. ورغم تركيز المسلسل على مشهد "الصلح"، فقد تعمّد تجاهل واحدة من محطاته المفصلية: إصابة الحسن بجراح خطيرة في أول محاولة لاغتياله، ما اضطره إلى المكوث في المدائن لبعض الوقت، (حتى برئ من جراحه، وتعجّل السلم في أثناء ذلك، ثم رجع إلى الكوفة، فاستُقبل فيها بسفراء معاوية)⁵. لقد جرى تصوير الصلح كخيار إرادي، بينما كان في جوهره قد فُرض تحت ضغط اختلال موازين القوة. ومع ذلك، لم يلتزم معاوية ببنود الاتفاق، بل استغل الصلح كمرحلة للانفراد بالحكم وفرض سلطته بالقوة. وسرعان ما بدأ التمهيد لتوريث يزيد، الأمر الذي يفتح باباً واسعاً للشكوك حول نواياه، بل وحتى حول مصير الإمام الحسن نفسه، الذي مات لاحقاً مسموماً، فقد (عُرِف الموت بالسم في أيام معاوية على نحوٍ غريبٍ مريب)6. لقد كانت الخلافة بالنسبة لبني أمية هدفاً مؤجلاً، يتحينون اللحظة المناسبة للوصول إليه. عقب وفاة النبي، لم يكن أحد من بني أمية يجرؤ على المطالبة بالخلافة، ليس فقط لافتقارهم إلى القبول الشعبي، بل لأنهم كانوا حتى وقت قريب في صف المعارضة للدعوة الإسلامية. لقد كان أقصى ما يطمح إليه أبو سفيان أن تؤول الخلافة إلى الإمام علي، لا عن اقتناع بمشروعه، بل لأنهما يلتقيان في النسب عند عبد مناف، الجدّ الجامع بين بني أمية وبني هاشم ، كي تبقى السلطة داخل هذا الفرع القرشي، ولا تذهب إلى البطون الأخرى من قريش. وقد أشار الإمام علي في إحدى رسائله إلى معاوية إلى تلك اللحظة الفاصلة، كاشفاً محاولة أبي سفيان لدفعه إلى انتزاع الخلافة بعد وفاة النبي، فقال: (إن أبا سفيان أرادني على أن أُنصِّب نفسي للخلافة، حتى لا يخرج الأمر من بني عبد مناف، فأبيت عليه)7 ، و هذا ما يكشف أن أبا سفيان لم يكن معنياً بالعدالة أو بالشورى، بل كان مدفوعاً بمنطق العصبية وتوازن القوى داخل البيت القرشي، يسعى لقطع الطريق على أبي بكر وعمر وعثمان، كي لا تفلت الخلافة من قبضة عبد مناف. هذه الشهادة تكشف بوضوح أن البيت الأموي لم يكن بعيداً عن فكرة مسك الحكم، لكنهم كانوا يفتقرون إلى الغطاء الديني لطرحها صراحة. وما لم يستطع أبو سفيان تحقيقه عبر التحريض، حققه معاوية عبر القوة والمناورة السياسية الطويلة.
الخلفية التاريخية والسرد الانتقائي يعتمد مسلسل "معاوية" على سردية انتقائية أحادية لتاريخ الفتنة الكبرى، تُبرّئ معاوية بن أبي سفيان، وتقدّمه كزعيم واقعي يسعى لوحدة الأمة، متجاهلةً حقائق تاريخية جوهرية. فقد رفض معاوية مبايعة الخليفة علي بن أبي طالب، ورفع قميص عثمان شعاراً سياسياً، وتمرد على الشرعية، واتخذ معاوية خطوات عملية لإجهاض قرارات الإمام علي، فحين أرسل عليُّ سهل بن حنيف والياً على الشام، اعترضه رجال معاوية على حدود الإقليم، ومنعوه من دخولها: (سألوه من يكون، فأنبأهم بأنه الأمير، فقالوا له: إن كنت أميراً من قبل عثمان فدونك أَمرتك، وإن كنت أميراً من قبل غيره فارجع إلى من أرسلك)8 . وهكذا بدأ معاوية أول إشارة إلى تمرد صريح على الشرعية، وتكريس واقع سياسي خارج إرادة الخليفة. يعيد المسلسل تأويل معركة صفين، ويقدّم التحكيم كمناورة عبقرية من معاوية، لا كمكيدة سياسية مدبّرة. وقد استُخدمت حيلة رفع المصاحف لحرف المعركة عن مسارها، في لحظة كانت فيها كفّة النصر تميل إلى علي، بينما: (أصحاب علي لا يشكون في النصر... وإذا المصاحف قد نُشرت ورفعت على الرماح من قبل أهل الشام، وإذا منادي أهل الشام يقول: هذا كتاب الله بيننا وبينكم، من فاتحته إلى خاتمته، الله الله في العرب، الله الله في الإسلام، الله الله في الثغور)9. بهذا الخطاب العاطفي، حُوّلت الهزيمة إلى تسوية، والخديعة إلى حكمة، غير أن المسلسل يُعيد ترميم هذه الوقائع على مقاس السردية السلطوية، فيُجمّل مشروع معاوية بوصفه حنكة سياسية، ويُخفي كيف استُخدم الدين أداة لتكريس الهيمنة وتثبيت الحكم الفردي. كما يطمس الخلفيات الاجتماعية والسياسية التي فجّرت ثورة الأمصار ضد عثمان، ليُقدّمها كفوضى بلا سياق، لا كحركة احتجاجية واعية ضد منظومة الامتياز والاستحواذ، متجاهلاً أنها كانت تعبيراً عن (تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان)10، وصراعاً على العدالة وتوزيع السلطة والثروة.
من التوريث إلى التلفيق.. كيف تُصنع شرعية الاستبداد العربي؟ لا يمكن النظر إلى مسلسل "معاوية" بمعزل عن سياقه السياسي والإعلامي. فقد جاء هذا الإنتاج السعودي الضخم في لحظة يتعاظم فيها الاستقطاب الطائفي داخل دول المنطقة وفيما بينها، ويتصاعد خلالها مشروع إعلامي محافظ يسعى لإعادة تشكيل الوعي التاريخي والديني بما يخدم مصالح النظم الحاكمة. المسلسل هو جزء من مشروع ثقافي متكامل لتأبيد تسلط أنظمة الاستبداد، وتلميع خطاب الهيمنة بالشرعيات الزائفة التي سارت عليها أنظمة الحكم العربية: إما توريث سلطوي بغطاء قبلي، أو عسكري متجبر، او ديمقراطية شكلية بانتخابات مزورة، و مفرغة من مضمونها. وفي هذا السياق، يُعاد تقديم الأنظمة الفاسدة كضامنة للاستقرار، مقابل تشويه مشروع التغيير الحقيقي ورموزه، خصوصاً من واجهوا الفساد ودعوا إلى بديل مدني ديمقراطي حقيقي، قائم على العدالة الاجتماعية. يحمل العمل رسالة ضمنية مفادها أن "الواقعية السياسية"، حتى وإن ارتكزت إلى العنف والاستبداد، أفضل من الثورات التي قد تقود إلى الفوضى. وهي رسالة موجهة إلى الشعوب العربية المقموعة، لتبرير منطق "الحاكم القوي" بوصفه حامياً لأمن البلاد وحافظاً لوحدتها. ينتمي المسلسل إلى ما يمكن تسميته بـ"الدراما التبريرية"، حيث يُعاد إنتاج التاريخ بما يخدم سردية رسمية تسعى إلى تثبيت شرعية الماضي السلطوي، تمهيدًا لترسيخ الأنظمة القائمة، وذلك عبر ثلاثة مستويات: شرعنة القمع من خلال تصوير عنف السلطة كخيار ضروري لحماية الدولة، وتقديم الحاكم المتسلط كضمانة للاستقرار ووحدة البلاد. محاصرة رموز المعارضة وتشويه مشاريعهم الإصلاحية، كما فعل عثمان مع "أبي ذر الغفاري"، إذ نفاه إلى الربذة، قائلاً له: (إني مسيّرك إلى الربذة، فسيره إليها، فلم يزل بها حتى مات)11. إعادة إنتاج السلطة وتأبيد السيطرة عليها، من خلال توظيف الدين، وتسخير القوة، واستغلال العصبية القبلية، وتدوير المال السياسي لخدمة مشروع الهيمنة. بهذا المعنى، لا يقدّم المسلسل قراءة موضوعية للتاريخ، بل يُعيد إنتاج شرعية الحاكم المتسلّط، ويُلبس الاستبداد لبوس الواقعية السياسية، في محاولة لتطبيع منطق القمع باسم الاستقرار، كي تتقبّله الشعوب العربية كقدر لا مفرّ منه. ضمير علي وسيف معاوية.. حين تنطق الدراما بلسان الطغيان يُقدَّم الإمام علي في المسلسل كزاهد نقي السريرة، لا كحكيم بصير، بل كشخصية مترددة، ضعيفة سياسياً، تدور في فلك الفوضى وتخسر معاركها تباعاً، في مقابل معاوية المتماسك، الواثق، الذي يحسن إدارة الحكم واحتواء الأزمات، وكقائد براغماتي، متماسك، يحسن إدارة الأزمات ويحفظ الدماء ويتجنب الفتن. لكن هذا التناقض في التقديم يُخفي حقيقة جوهرية: أن معاوية تمرد على خليفة شرعي بايعته الأمة، وفرض سلطته بتحالف السلاح والمال والقبيلة. وتبرئته من هذا التمرد ليست سوى تكريس لفكرة أن الشرعية تُنتَزع بالقوة، لا تُبنى بالعدل أو رضا الناس. يتبنّى المسلسل خطاباً خطيراً، يصوّر خروج معاوية على الإمام علي كفعل مسؤول لحفظ وحدة الأمة، مانحاً التمرد المسلح غطاءً دينياً. كما يُستخدم دم عثمان كذريعة لإدامة الهيمنة الأموية، بينما جوهر الفتنة كان في الصراع على شكل الدولة: عادلة أم استبدادية! ، يرسّخ العمل سردية سلطوية معاصرة: أن الدولة القوية، ولو كانت قمعية، أفضل من دولة عادلة بنظام ضعيف. وهكذا يُطبَّع منطق الحكم القائم على السيف أو الوراثة أو الانتخابات الصورية، تحت شعار "الاستقرار"، في تماهٍ واضح مع ما تروّجه الأنظمة العربية المعاصرة، التي ترفع شعارات الأمن والواقعية لتبرير القمع وتكريس السلطة. بينما الحقيقة أن الاستقرار لا يُبنى بالخوف، بل بالمساواة والمشاركة وتأمين الكرامة.
الناهب والمنهوب.. سردية معاصرة لصراع قديم يتجاهل مسلسل "معاوية" الخلفيات البنيوية العميقة للصراع التاريخي، وفي مقدمتها الصراع بين مشروع العدالة الاجتماعية الذي مثّله الإمام علي، ومصالح النخبة القرشية الثرية، وعلى رأسها بنو أمية. فقد رفضت الطبقة الأرستقراطية المتخمة توجّه علي لإعادة توزيع الثروة وفق معيار الاستحقاق، لا على أساس الولاء أو القرابة. غيب المسلسل رؤية الإمام علي في تقسيم المال مباشرة على الناس، إذ (ما يأتي من المال يُقسم على الناس، بعد أن يحتجز منه ما يُنفق في المرافق العامة، ولم يكن علي يكره شيئاً كما كان يكره الادخار في بيت المال، كان يتحرج من ذلك أشد التحرج)12. أبعدت الدراما القصد الحقيقي من المشهد، إذ غيّبت أن مشروع علي لم يكن مجرد موقف سياسي، بل رؤية إصلاحية شاملة اصطدمت بجوهر منظومة الامتياز. ولهذا، لم يُنظر إليه كأحد الخيارات المطروحة، بل كخطر وجودي يُهدد بنية السلطة التي أقامها معاوية وتحالف المال والقبيلة من حوله. جرى إقصاء هذه التناقضات من الخطاب الدرامي، لصالح سردية تُروّج لفكرة أن "من يُحسن الحكم يستحق أن يحكم"، ولو جاء إلى السلطة بالسيف. فالعمل يُجمّل الانقلاب على الخليفة الشرعي، ويُهمّش مشروع العدالة الذي دافع عنه علي، ويُسقِط على التاريخ خطاباً معاصراً يبرّر الهيمنة ويشيطن المعارضة، باسم "الواقعية السياسية". إنه تجاهل متعمَّد لجوهر الصراع، الذي كان وما يزال، بين العدل والاستبداد، بين دولة الحماية وسلطة النهب، بين الناهب والمنهوب.
خلف راية الخلافة.. أرستقراطية تُنهب في الظل لم يتوقف المسلسل عند نتائج اتساع الفتوحات في عهدَي عمر وعثمان، والتي أدّت إلى نشوء طبقة بيروقراطية – تجارية – قبلية، راحت تفرض سطوتها على مفاصل الدولة. وقد تحوّلت هذه الطبقة تدريجياً، كما يصفها حسين مروة، إلى (أرستقراطية طبقة أصبحت في هذا العهد – عهد عثمان – ذات وجه شبه إقطاعي، وأصبحت في الشام سنداً وجهازاً رسمياً للطبقات المحلية السائدة والمستثمرة)13. راحت هذه الطبقة تُحكم قبضتها على موارد الدولة، وتُوزّع الغنائم لصالح "الأثرياء الجدد"، بلغة اليوم، "القطط السمان، او حيتان الفساد" من بني أمية ووجهاء قريش، وبرز دور معاوية في ترسيخ هذا التحالف الطبقي، كما يصفه طه حسين: (أضاف مالاً إلى مال، وثراءً إلى ثراء)14. هكذا تشكّلت بنية حكم تستند إلى الاستئثار الزبائني، حيث المال والقبيلة والسيف أصبحت أدوات الوصول إلى السلطة والموارد، لا الكفاءة ولا المساواة. وقد مهّد هذا التحوّل الطريق لولادة الدولة الأموية بوصفها أول وراثة سلطوية مقنّعة بثوب ديني. برزت عادة النزعة الأموية في عهد عثمان للسطح. لم يكن عثمان خيار الفقراء، بل "مرشّح النخبة المتخمة"، ومهّد الطريق لمعاوية الذي وسّع له ( في الولاية، فضمّ إليه فلسطين وحمص، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الأرجاء)15. وبرز في هذا التحول رجال السلطة الجدد: معاوية: الذي وصفه طه حسين: (كان أعظم الولاة حظاً من كل شيء أيام عثمان)16. عبد الله بن أبي سرح: والٍ على مصر رغم سيرته المثيرة للجدل. مروان بن الحكم: كمستشار مقرب، صاحب نفوذ سياسي كبير. عمرو بن العاص: أعيد إلى واجهة النفوذ في مصر. زياد بن أبيه: صعد من موظف مالي إلى رجل دولة محوري. عبد الرحمن بن خالد بن الوليد: شخصية نافذة في الشام، تستند إلى الإرث العسكري لأبيه. الوليد وسعيد على الكوفة. عبد الله بن عامر على البصرة . واغلب هؤلاء (من ذوي قرابة عثمان: منهم أخوه، ومنهم أخوه في الرضاعة، ومنهم خاله، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى، إلى بني أُميّة بن عبد شمس)17. لم تُبصر دراما التزييف حقيقة تلك التعيينات، التي لم تكن مجرد قرارات إدارية عابرة، بل ملامح واضحة لانتقال الحكم إلى سلطة قبلية متحالفة مع النخب المالية، أعادت تشكيل الدولة وفق مصالحها الضيقة. وقد أسهم هذا التحوّل في تكريس الفجوة الطبقية، وتفجير الغضب الشعبي في الأطراف المهمَّشة، حيث شعر الناس أن الدولة باتت أداة بيد القلة، لا مظلة للعدالة. وقد لخّص حسين مروة هذا التحول بقوله: (رأينا أن هؤلاء الحكام، باتباعهم سياسة الإثراء الشخصي وامتلاك الأراضي وإرهاق السكان بالضرائب، أوجدوا الأسباب التي أحدثت انتفاضة اجتماعية في الأمصار المفتوحة، أدّت إلى مقتل الخليفة نفسه، كما أدّت إلى صراع حزبي جديد بلغ حدّ العنف المسلّح بين الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ومعاوية حاكم سوريا، ممثّلًا حزب الأمويين)18.
بشّر الكانِزين بمكاوٍ من نار".. نداء لم تسمعه الدراما لم يعد المال مالاً عاماً يُدار بمنطق العدالة والمصلحة المشتركة، بل تحوّل إلى أداة لضمان الولاء وترسيخ النفوذ، في واحد من أخطر الانحرافات التي طالت الوظيفة المالية والاجتماعية للدولة. عبّر عنه طه حسين بقوله: (يمثّل التغيير الذي طرأ في أيام عثمان على حياة بعض أسر قريش... في الثروة الكبيرة التي انهالت عليهم... ومن ميل إلى زيادة الربح وتضخيم الثروة دون نظر إلى مستوى الآخرين)19. هذا الانقلاب البنيوي مهّد للفتنة الكبرى وولادة الدولة السلطانية، مع بروز ثلاث ظواهر خطيرة: تراكم الثروة بيد قلة من قريش. هُمش أبناء الولايات رغم مساهماتهم في الفتوحات. صعود أصوات احتجاج من داخل الدولة، أبرزها أبو ذر الغفاري، الذي صرخ: (بشّر الكانزين بمكاوٍ من نار)20. لم يُسلّط المسلسل الضوء على الدور الحيوي لحسان بن ياسر، الذي (كان يكفّر عثمان ويستحلّ دمه، ويسمّيه نعثلاً)21، في التعبير عن وجدان الفقراء، وفضح تكدّس الثروة واستحواذ النخبة على المال العام. كما غيّب المسلسل صوت أبي ذر الغفاري، الذي مثّل بصراحته الجريئة تهديداً مباشراً محذّرا: (ويل للأغنياء من الفقراء، وكان الناس يجتمعون حوله ويؤمنون بدعوته، حتى خشي معاوية من أثره على أهل الشام، وكتب إلى عثمان يشكوه ويحذّر منه)22. ويورد جواد علي وصفاً لتحركه في الشام: (قام أبو ذر بالشام، وجعل يقول: يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء.... فما زال كذلك حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس، فكتب معاوية إلى عثمان: إن أبا ذر قد أعضل بي)23. لقد مثّلت دعوة أبي ذر انقلاباً على منطق التراكم والامتياز، فكان لا بد من تهميشه ونفيه، لأنه اقترب من الحقيقة أكثر مما ينبغي. سعى المسلسل إلى تغييب التحوّل البنيوي في طبيعة النظام السياسي، متجنباً التطرّق إلى ثلاث ظواهر خطيرة مهّدت للانفجار: الثروة في أيدي قلة من قريش. تهميش أبناء الأمصار. صعود أصوات احتجاج من داخل الدولة نفسها. وقد برز أبو ذر الغفاري كصوت احتجاجي صريح، عبّر عن رفضه الجذري لانحراف الدولة عن وظيفتها الاجتماعية، إذ: (كانت معارضة أبي ذر، كما رأيت، تتصل قبل كل شيء بالنظام الاجتماعي... ويؤثر بالمال قومًا لا حاجة بهم إليه، ويصرف هذا المال عن المصالح العامة)24. ومع ترسّخ تحالف المال والسلطة، تبلورت أرستقراطية جديدة، شكّلت البنية التحتية لولادة الحكم الوراثي لاحقاً، ومهّدت للفتنة الكبرى التي أدخلت الدولة الإسلامية طور الانقسام والصراع على الشرعية.
حين صارت الخلافة مظلة للأقارب.. ولادة الثورة من رحم التفاوت لم يكن التمرّد على عثمان بن عفّان نتيجة خلافٍ ديني أو مؤامرة نخبوية، بل كان ثمرة لتحوّل طبقي جذري، تفاقمت خلاله الفجوة الاجتماعية بشكل مقلق، مع تصاعد الاستحواذ على الثروة والمناصب بيد طبقة ضيقة من الأقرباء والمتنفذين، لذا اندلعت الاحتجاجات: (في السنة الأولى من إمارة عثمان، وبدأت على إثر اتخاذ رجال من قريش أموالاً في الأمصار... وامتلاكهم آلاف الرقيق)25. وانتظمت كحركة احتجاجية قوية ضد الفساد، وضد استحواذ الشبكة الزبائنية على الوظائف العامة، والمبالغة في الاستفادة من امتيازات السلطة، ما يعكس تبلور وعي اجتماعي ناقد لنهج الحكم، ومطالب بتحول جذري في نمط الحكم والإدارة، وظهرت بوادر تنسيق بين مراكز الاحتجاجات في البصرة والكوفة ومصر، كما يوثق جواد علي: (إن الناقمين على الخليفة في الأماكن الثلاثة المذكورة، اتفقوا أولاً، وبعد أن تمّت خططهم، على أن يثوروا على أمرائهم، واتعدوا يوماً)26. حتى في المدينة (نشأت معارضة شعبية خفية، تجري بها الألسن ولا يُعرف صاحبها)27. ولم يكن المشاركون في التمرد من وجهاء قريش، بل: (جلّهم من الشباب أو الكهول الناقمين على الوضع العام، وعلى الإسراف في بيت مال المسلمين)28. وصف طه حسين هذه المعارضة بأنها (شعبية خفية، تجري بها الألسن ولا يُعرف صاحبها)29، وأكد جواد علي أنها (اتجاه اجتماعي في الدرجة الأولى)30، وخلص حسين مروة إلى أنها: (أول ثورة اجتماعية في الإسلام)31. لقد جاء مقتل عثمان كنهاية لمرحلة، وبداية لصراع اجتماعي مفتوح على طبيعة الدولة والسلطة، (لم يقف بأحداثه عند هذا الحد، وإنما تجاوزها هو وعماله إلى أشياء أخرى تمس حقوق الناس ومصالحهم وحرياتهم، فكان هذا مصدرًا لشر عظيم)32. وعليه، فإن فهم ما جرى ليس ترفاً تاريخياً، بل شرط لفهم بنية الاستبداد، إذ: (إن الثورة التي حصلت في عهد الخليفة الثالث، عثمان بن عفان، هي أول ثورة اجتماعية في الإسلام)33. "معاوية" وتغييب الجذر الطبقي للصراع.. دراما الهيمنة وتجميل الاستحواذ حاول المسلسل تقديم "الفتنة الكبرى" كخلاف بين "خيرة الصحابة"، أو صراع تأويلي بين نبلاء، متجاهلاً بعدها الطبقي والاجتماعي. فبهذه القراءة التبجيلية تُفرغ الفتنة من مضمونها المادي، وتُحوَّل إلى نزاع أخلاقي معلّق، يُبرّئ البُنى التي رسّخت التفاوت والاستئثار. سعى المسلسل إلى تصوير الإمام علي كرجل توازنات، لكن الوقائع تكشف عن موقف مبدئي يرفض منطق الصفقة وتحويل الدولة إلى غنيمة. كان الإمام علي يمثّل معارضة أخلاقية ضد براغماتية سلطوية تبرّر الانتهاك باسم الاستقرار، فهو لم يخرج قط (في سيرته مع عثمان عن النصح والمشورة، والنقد الشديد أحياناً.... يبصّر عثمان بالحق، ويردّ الناس عن الفتنة.... ظلّ باراً بعثمان أثناء الحصار، فأنفذ إليه الماء، وأرسل ابنيه لمقاومة المحاصِرين)34. صوّر المسلسل الإمام علي وكأنه محايد ساكن، يتفرج على ما يجري، في حين أن جوهر موقفه كان رفضاً حازماً لتحوّل الدولة إلى منظومة امتياز واستئثار بمواقع السلطة. وقد ساهمت المدونات التقليدية في هذا التبسيط، حين اختزلت الصراع في خلاف على القصاص من قتلة عثمان، متجاهلةً الجذور الطبقية والاجتماعية العميقة التي شكّلت الخلفية الفعلية للأحداث. فما جرى بعد مقتل عثمان لم يكن مجرّد تمرد على شخص، بل صراع على طبيعة الدولة. وكما لخّص حسين مروة: (وقد رأينا أن هؤلاء الحكام، باتباعهم سياسة الإثراء الشخصي وامتلاك الأراضي وإرهاق السكان بالضرائب، أوجدوا الأسباب التي أحدثت انتفاضة اجتماعية في الأمصار المفتوحة، أدّت إلى مقتل الخليفة نفسه، كما أدّت إلى صراع حزبي جديد بلغ حدّ العنف المسلّح بين الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ومعاوية حاكم سوريا ممثّلًا حزب الأمويين)35. هكذا، لم تكن الفتنة الكبرى فتنةً أخلاقية، بل صراعاً سياسياً – طبقياً على وظيفة الدولة، وكيفية إدارة ثرواتها، وطبيعة اتخاذ قراراتها. لكن المسلسل غيّب هذا البعد لحساب سردية سلطوية تُبرّر الهيمنة والاستحواذ، وتُقصي مشروع العدال. إن مسلسل "معاوية"، بتجاهله هذا البعد الاجتماعي – الاقتصادي، يُكرّس تغييب الوعي النقدي في قراءة التاريخ. لقد أثبت أنه لا يستحضر الماضي لفهمه، بل يُعيد تشكيله لتبرئة السلطة، وإقصاء المهمشين، وتجميل الاستحواذ باسم "الواقعية السياسية". قميص يُرفع للثأر... ويُخيّط للسلطة لم يكن مسلسل "معاوية" بريئاً في سرده، بل تعمّد تشويه الوقائع التاريخية وتبسيط الفتنة الكبرى، وتجاهل حقيقتها كصراع اجتماعي. فالمواقف من مقتل عثمان بن عفان لم تكن انعكاساً لإرادة إنفاذ القانون، بل كانت محكومة باعتبارات النفوذ، وموازين القوى، والخشية من فقدان السيطرة على القرار السياسي لصالح بني أمية. فطلحة والزبير وعائشة، الذين كانوا من أبرز المنتقدين لسياسات عثمان، لم يكن اعتراضهم مبدئياً على فساد الحكم أو استئثار بني أمية، بل قلقاً من التهميش السياسي وخروج القرار من أيديهم خلال عهده. لكن حين انتقلت الخلافة إلى الإمام علي، صاحب المشروع المستقل القائم على العدالة وتفكيك منظومة الامتيازات، أدركوا أن نفوذهم قد تلاشى، فبدّلوا مواقعهم ورفعوا راية "الثأر"، لا طلباً للقصاص، بل طمعاً في استعادة الامتياز. تحوّل قميص عثمان إلى أداة ابتزاز سياسي، لا وفاءً لدمٍ مهدور، بل وسيلة للعودة إلى دائرة التأثير والنفوذ. وكان معاوية الأبرع في توظيف هذه الورقة، وما إن استنفدت الورقة وظيفتها، حتى ألقاها جانبًا دون تردد، مؤسّسًا مشروعه السلطوي الوراثي. لم يكن معاوية يريد أن يثأر لعثمان بقدر ما أراد أن يصرف الحكم عن عليّ. وآية ذلك أنه لما استقام له الأمر بعد استشهاد عليّ، ومصالحة الحسن إيّاه، طوى ملف عثمان ونأى عن قتَلته، كأنّ الثأر لم يكن يومًا غير سلّم لارتقاء العرش. معاوية لم يكن (يريد أن يثأر لعثمان بمقدار ما كان يريد أن يصرف الأمر عن عليّ، وآية ذلك أن الأمر استقام له بعد وفاة عليّ رحمه الله ومصالحة الحسن إيّاه، فتناسى ثأر عثمان ولم يتبع قتَلته)36. لقد كانت الفتنة الكبرى لحظة حاسمة، لم تكن فيها المعركة على شخص الحاكم، بل على شكل الدولة: هل تكون دولة عدالة ومشاركة؟ أم نظاماً فردياً يقوم على السيطرة المطلقة، ويُغلّف بالدين، ويُدار بتحالف المال والقبيلة، والتفرد في اتخاذ القرار؟. قصدية المسكوت عنه.. حين يُعاد التاريخ على مقاس السلطة لم يكن ما أغفله مسلسل "معاوية" مجرد سهو فني أو تقصير درامي، بل جاء في إطار ما يمكن تسميته بـ"قصدية المسكوت عنه"، حيث جرى تغييب العناصر الأشدّ إزعاجاً لرواية الحكم، وتجاهل الخلفيات الطبقية والسياسية التي فجّرت الفتنة الكبرى، ليُقدَّم التاريخ في قالبٍ انتقائي يخدم سردية السلطة. فالصمت عن جوهر الصراع على الثروة والقرار، وتعتيم مشهد التمرّد الشعبي، لم يكن بريئاً. بل هدف إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي بما يُبرّر الحاكم المتسلّط، ويُخفي معالم الظلم البنيوي الذي أشعل الغضب في الأمصار. هناك مشاهد حُذفت ودسائس طُمست، ودماء أُريقت واغتيالات نُفذت، لكنها لم تُذكر، وكأنها تفاصيل هامشية لا تمسّ جوهر الحكاية، بينما هي في الحقيقة قلب الرواية المسكوت عنها، ومفتاح فهم ما جرى ويجري.
(ما زالت عورة بن العاص معاصرة وتُقبح وجه التاريخ)37 إذا كان قميص عثمان قد استُخدم لتعبئة الجماهير وتقويض شرعية الإمام علي، فإن حذف مشهد انكشاف عمر بن العاص في معركة صفّين يكشف جانباً آخر من اللعبة: تغييب ما يفضح رموز السلطة، وتقديمهم كرجال دولة محترفين. المشهد الذي تجاهله مسلسل "معاوية"، رغم توثيقه في كتب التاريخ، يُظهر عمر وهو ينجو من سيف علي بكشف عورته. لم يكن ذلك شجاعة ولا دهاءً، بل مناورة مهينة من سياسي يُضحّي بكرامته من أجل البقاء. حذف هذا المشهد لم يكن بدافع الذوق، بل لتسويق الانتهازية كحنكة، والغدر كذكاء سياسي.
الاغتيال كأداة سياسية.. الطريق إلى التوريث لم يكن مشروع التوريث عند معاوية مجرّد انتقال طبيعي للسلطة، بل كان انقلاباً سياسياً ناعماً، استدعى تفكيك كل ما يهدّده من رموز وشرعيات. ولأن مواجهة الخصوم علناً قد تثير ردود فعل غير محسوبة، اختار معاوية طريق السمّ، كأداة صامتة للتصفية، تقتل دون أن تخلّف جلبة. هكذا غُيِّبت شخصيات محورية، اغتيلت في الظل، بينما يغفل المسلسل ذكرها أو يشوّه مصيرها، حفاظاً على صورة "رجل الدولة" الذي يُجمّل الاغتيال بالدهاء، ويُخفي الجريمة وراء حكاية الاستقرار.
1. مالك الأشتر.. الضربة الاستباقية مثّل الأشتر بالنسبة للإمام علي أكثر من قائد عسكري، كان صاحب موقف ورؤية، وتعيينه والياً على مصر خطوة استراتيجية لتقويض نفوذ معاوية. لكنه لم يصل. فقد قُتل في العريش بعد أن قُدّم له شراب مسموم. يؤكد هادي العلوي: (أن الأشتر اغتيل بالسم، بتدبير من معاوية، وأن السم دُسّ في شراب من عسل أو ماء أو سويق. ورواية العسل أكثر شيوعاً، وقد وردت عن الواقدي، وهو مؤرخ مبكر وموثوق، وروايته تفيد أن الرجل الذي سمّ الأشتر كان دهقاناً في العريش... وقد اقترنت بالحادث كناية مشهورة لمعاوية، وهي قوله بعد أن بلغه نفاذ خطته: 'إن لله جنوداً من عسل' أو 'إن لله جنوداً منها العسل)38.
2. الحسن بن علي.. الشرعية التي أُزيلت نصّ الاتفاق بين الحسن ومعاوية على عودة السلطة إلى الحسن بعد وفاة الأخير، لكن معاوية كان يعد العدة لتوريثها ليزيد. وتشير الروايات إلى أن الحسن قُتل بالسم على يد زوجته جعدة، بتحريض من معاوية. (نصّ على موت الحسن مسموماً ابن عبد البر في الاستيعاب عن قتادة وأبي بكر بن حفص، وهما من قدماء الرواة. وأورد عن رواة آخرين أن جعدة سمّته بتدسيس من معاوية)39. ويضيف: (أشار إلى موته مسموماً ابن حجر في الإصابة وتهذيب التهذيب، وابن الأثير في أسد الغابة. والكتب الثلاثة هي، إلى جانب الاستيعاب، من المصادر المعتمدة في التراجم)40.
3. سعد بن أبي وقاص.. المعارض الصامت رغم اعتزاله الصراعات، رفض سعد مبايعة يزيد. وبحسب أبو الفرج الأصفهاني: (من بين القلائل الذين تبقّوا من قادة الإسلام الكبار الذين يعسر تخطيهم في خطط الاستخلاف، بسمعة شخصية عادلة مثل يزيد. ويجب أن يُفسر التخلص من سعد، إذا صحت رواية أبو الفرج، بمعارضته لاستخلاف يزيد، وليس بطمعه في الخلافة، لأنه كان يومئذٍ قد عَمي، والبصر شرط رئيس في صيغة الاستخلاف عند المسلمين)41.
4. عبد الرحمن بن خالد.. المنافس من داخل الدائرة من بين أبرز الاغتيالات التي غيّبها المسلسل، اغتيال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، القائد العسكري البارز وصاحب الشعبية الواسعة في الشام، والذي اعتبره كثيرون بديلاً محتملاً ليزيد. شعبيته أثارت فزع معاوية، فقرّر تصفيته بصمت، مستخدماً الطبيب كأداة. وقد جاء في الرواية: (أحرز نجاحات كبيرة في حروبه هناك... حتى خافه معاوية، فأمر ابن آثال أن يحتال في قتله. فلما وصل عبد الرحمن إلى حمص، دسّ إليه ابن آثال شراباً مسموماً)42. تكشف هذه السلسلة من الاغتيالات أن مشروع التوريث لم يُبْنَ على تفاهم، بل على إقصاء كل من يحمل صفة رمزية أو شرعية تعرقله. لم يُقصِ معاوية المعارضين فقط، بل كل من يمكن أن يُحرج مشروعه، ولو بصمته. قال هادي العلوي: حوّل معاوية الحاكم "من أميرٍ للمؤمنين إلى مالكٍ للرقاب" عبارة تلخص طبيعة التحول الذي شهدته الدولة، من سلطة متعددة الأصوات، إلى سلطة لا تتسامح مع أي صوت مختلف، حتى لو كان مجرد وجودٍ صامت.
ازدواجية المثقف وتواطؤ النخبة.. بين منبر علي ومائدة معاوية ما لا يمكن تجاهله هو مأزق المثقف في مسلسل "معاوية"، فالمشكلة لم تكن في النص وحده، بل في أولئك الذين ارتضوا أن يكونوا أدوات في صياغة وعي زائف يخدم السلطة، بعد أن قدّموا أنفسهم طويلاً كدعاة حرية وخصوم للاستبداد. الكاتب، والممثل، والمخرج، لم يكونوا مجرد فنانين، بل شركاء واعين في إعادة إنتاج سردية تُبرّئ القهر وتُلمّع الغالب باسم الواقعية. وهنا تبرز المفارقة الصارخة.. كاتب المسلسل يزعم في لقاءاته أنه مع الدولة المدنية، ويعتبر معاوية مؤسسها !أيّ "مدنية" تلك التي تبدأ بالانقلاب، وخوض الحرب، وتنتهي بالتوريث؟ لا شيء في نموذج معاوية يُحيل إلى مدنية، بل كل شيء فيه يؤسس لنظام تسلطي قائم على القهر. هذا التزييف ليس جهلاً بالمصطلح، بل وعي منحاز لإفراغه من مضمونه، وتحويله إلى قناع يجمّل القبح. فالدولة المدنية تقوم على الإرادة الشعبية، وتداول السلطة، والفصل بين السلطات، بينما دولة معاوية كرّست الحُكم بوصفه إرثاً مقدّساً يُحمى بالسيف، ويُسوّق بالدين. إنها ليست معركة سردية، بل معركة على الوعي ذاته، لأن المثقف الذي يُجمّل الاستبداد ليس ناقلاً للفن، بل شاهد زور يصوغ التاريخ على مقاس السلطان، ويُقنع الأجيال بأن العدل سذاجة، وأن الاستحواذ على السلطة براعة سياسية، وأن الطغيان حكمة. وهكذا، ينزلق المثقف من موقعه بين الناس إلى موقعه بين خواص الحاكم.
الدراما في خدمة السلطة.. سردية أحادية ووعي مُوجَّه ليست هذه الدراسة رداً فنياً على مسلسل "معاوية"، بل قراءة نقدية في خلفيته السياسية وخطابه الأيديولوجي. فالعمل، رغم بذخه الإنتاجي وتفاصيله البصرية المبهرة، لم يُنجز لإثارة الأسئلة أو مساءلة التاريخ، بل لخدمة سردية سلطوية أحادية، تُلمّع معاوية وتُهمّش الإمام علي، وتُقدّم الصراع على الحكم في الإسلام بوصفه خلافاً بين نُبلاء لا نزاعاً طبقياً واجتماعياً على طبيعة الدولة وجوهر وظائفها في خدمة الانسان. جاء تمثيل الإمام علي باهتاً، وحضوره مفرغاً من رمزيته، في مقابل الحضور الطاغي لمعاوية، الذي صُوّر كقائد حكيم أنقذ الأمة من الفتنة. الموسيقى والمونتاج لم يُستخدما لتعميق الفهم، بل لضبط الانفعالات وتوجيه التعاطف، لا مع العدل، بل مع "الاستقرار الخادع"، لا مع المبدأ، بل مع "الدهاء". تغافل المسلسل عن جوهر الفتنة الكبرى، باعتبارها انقلاباً على مشروع العدالة والمشاركة، لحساب سلطة فردية تقوم على التوريث، وتحالف المال والقبيلة والسيف. وحين يُساق معاوية كرائد للدولة المدنية، ويُحذف صوت أبي ذر، ويُهمّش مشروع الإمام علي، فإننا أمام دراما لا تستعيد التاريخ، بل تعيد صناعته بما يخدم حاضر الأنظمة العربية المستبدة. إنها هندسة ناعمة للوعي، تُبرّر الاستبداد باسم الحكمة، وتُقصي الروايات البديلة باسم "الواقعية السياسية". وما قُدِّم على الشاشة لم يكن مجرد سرد، بل تزييف مؤسّس، يُراد له أن يُقنع المشاهد بأن السيطرة والاستحواذ مصدر للشرعية، وأن التهميش ضرورة، والقمع قدر لا بد منه، بينما يُصوَّر العدل كضعف لا يصلح للحكم.
من السلطة المفروضة إلى الشرعية المصنوعة… دراما تُجمّل الاستبداد لم تكن سردية "معاوية" في هذا العمل الفني مجرّد طرح درامي بريء، بل إعادة إنتاج ناعمة لشرعية السلطة المفروضة، تُقدَّم بصوت قوي، وإضاءة مبهرة، وتمويل سخي، وبمشاركة مثقف منزوع الضمير. لم يكتفِ العمل بتبييض سيرة رجلٍ مثيرٍ للجدل، بل صاغ خطاباً يُسوّغ القمع باسم الحكمة، والانقلاب باسم الدهاء، والهيمنة القسرية باسم الاستقرار. وهو بذلك انعكاس مباشر لبنية الحكم العربي الراهن، حيث تتجدّد تحالفات السلطة على قاعدة: الدين المُسيّس، العشيرة المُستقوية، الجنرال المتفرّد، والتاجر الفاسد. أنظمة تحكم بواجهات ديمقراطية وبواطن ديكتاتورية: انتخابات تُدار بالمال السياسي، تُعرف نتائجها سلفاً، وتُجهَّز صناديقها كما تُجهّز خطب التهليل في الصحف والنشرات. حكومات تُصنع فيها الرئاسات من رماد العنف، يُزيَّن وجه الإرهابي المطلوب، ويُعاد تصديره بوصفه "رجل الدولة" وحامي الإيمان ووحدة الوطن. نهبٌ منظم، وسرقة باسم الشريعة، وتقاسم غنائم باسم العقيدة، وكل ذلك يُسوَّق بمفردات "العدل الإسلامي" و"الحكم الرشيد". سردية معاوية هنا ليست حنيناً إلى الماضي، بل خريطة طريق للحاضر، تُظهر كيف يمكن تلميع كل ظالم، إن أحسن الخطاب وتوفرت الكاميرا الذكية والتمويل الباذخ من المال العام. هي محاولة لصناعة شرعية زائفة، تُغطي على فساد لا يُطاق، ودمٍ لم يجف، وسرقة لا تخجل، وقمع يُبرَّر بكل ما تيسّر من مرويات سلطوية باسم الدين وتلفيقات التاريخ. لهذا، فإن نقد هذه السردية ليس ترفاً فكرياً، بل واجب أخلاقي، ومعركة في صميم الوعي الشعبي. فالمواجهة اليوم لا تدور فقط حول مَن يحكم، بل حول كيف يُصاغ الحاكم في أذهان الناس، وكيف تُنتَج شرعيته من ركام الرعب والفقر والخرافة. وإذا كانت قريش قد صنعت معاوية بالسيف والمكر، فإن السلطة اليوم تصنعه بالكاميرا والمنبر والإعلام المأجور. وإذا كان الإمام علي قد خسر الحكم لأنه رفض أن يفرض سلطته بالخديعة، فإن شعوبنا اليوم تخسر أوطانها لأن السلطة المفروضة تتجدد بأقنعة مختلفة، ووجوه أشد بؤساً. وإذا كان أتباع معاوية اليوم يرفعونه رمزاً ويقتدون بسيرته في تثبيت السلطة بالدهاء والسيف، فإن خصومه المدّعين الانتماء إلى علي بن أبي طالب، قد شوّهوا إرثه بعد أن بلغ الفساد في ظل حكمهم حدوداً فاضحة، وتحوّلت الممارسة السياسية إلى مشهد مقزز يفوق، في قبحه، كل ما يُؤخذ على معاوية من مكر ودموية. فقد نشأت طغمة فاسدة، استحوذت على المال العام والمناصب، وفرغت العدالة من مضمونها، إلى الحد الذي دفع المرجعية الدينية إلى أن تقاطعهم، وأن تأبى استقبال أيٍّ منهم، ازدراءً ورفضاً. لا خلاص من هذا القيد إلا بكسر هذه الحلقة الجهنمية: المنتصر يكتب التاريخ، والفاسد يفوز بالانتخابات، والمثقف يُبرِّر، والشعب يُقصى. ولا تُكسر هذه الحلقة إلا بتغيير موازين القوى لصالح قوى التغيير والإصلاح، وبإعادة الاعتبار للعدالة المسحوقة، والذاكرة المغيَّبة، والوعي الذي لا يُشترى لا بميزانية مسلسل ولا بمنحة وزارة.
أخيراً: إن هذا العمل، رغم ما يبدو عليه من طابع تبريري للسلطة، ينطوي أيضاً على هدف موازٍ بالغ الخطورة: تأجيج الصراع الطائفي في المنطقة، عبر تصعيد الاحتقان المذهبي، وإعادة صياغة السرديات التاريخية بطريقة تُثير مشاعر الغضب بدل أن تُطفئ جذوة الأسئلة. فهو يقع في صميم الحرب الناعمة الدائرة في المنطقة، حيث تُستخدم الدراما كأداة لإدارة التوتر لا لحلّه، ولترتيب المشهد الطائفي لا لتفكيكه جذرياً. لكن من يُخطّط لتسخين ساحات التوتر المذهبي عليه أن يُدرك حقيقة أعمق من الحسابات السياسية والإعلامية: هناك مواطنون في هذه البلدان لهم مشاعر راسخة، ومعتقدات دينية متجذّرة، وذاكرة جماعية لا تُمحى بمشهد درامي، ولا تُختصر بخطاب سلطوي. احترام هذه المشاعر، وصون هذه المعتقدات، ليس ترفاً ولا خياراً تجميلياً، بل هو شرط جوهري لأية مصالحة صادقة أو استقرار طويل الأمد. إن استقرار المجتمعات لا يُبنى على إثارة الكراهية والأحقاد، بل على ترسيخ قيم التسامح، والتعايش المشترك، والمشاركة السياسية، والمواطنة المتساوية، والعدالة الاجتماعية. وما لم تُسترد هذه القيم إلى الوعي الجمعي، فإن أيّ استقرار يُبنى على التزييف، سيبقى هشاً، وأيّ أمن يُدار بالاستفزاز، لن يدوم.
*
اضافة التعليق