الجديد يتبلور: نهاية مرحلة… وبداية وثوب

بغداد- العراق اليوم:

جسم الحلفي

أتفق تماماً مع الرأي الذي يحمّل التيار المدني، بكل أطيافه واتجاهاته، وضمنه اليسار العراقي، مسؤولية تراجعه. فقد قلنا ونقول إن الأمر يحتاج إلى تقييم شامل وجدي وموضوعي، يفتش في مآلات هذا التراجع، إن لم أقل الأزمة، بكل مسؤولية وجرأة ووضوح.

لا مجال للتغاضي أو الترقيع أو تعليق الأخطاء على الآخرين. من لم يراجع نفسه سيظل في ذيل الأحداث، ويغدو في النهاية بلا أثر، وربما يستقر في زاوية باهتة من متحف التاريخ.

المطلوب اليوم هو استعادة الوثوب. فقد كان المدنيون أصحاب المبادرة في النزول إلى الساحات، متصدّين للمحاصصة والفساد ورهن السيادة للخارج، لا يملكون سوى أصواتهم التي صدحت بمطالب واضحة لا لبس فيها ولا مواربة، ووقفوا بلا غطاء ولا مال ولا سلاح. لقد اجتازوا امتحان المصداقية بنجاح، ولم يبخلوا بالتضحيات من أجل المواطنة والكرامة والعدالة.

لا يكتمل أي تقييم من دون التوقف عند البيئة السياسية التي تُحكم بمنطق الاستحواذ وإعادة إنتاج السلطة، عبر آليات تُجهض كل قوة تغيير وتعرقل أي مشروع إصلاحي قبل أن يتبلور. بيئة تزرع أصوات الانتكاس داخل الصف المدني نفسه، وتعيد تفتيت ما يتشكل من مبادرات. وقد بُني النظام بطريقة تبتلع كل صوت مستقل وتغلق الطريق أمام أي بديل محتمل.

الحديث عن "فشل" القوى المدنية في حصد مقاعد لأسباب ذاتية فقط، مع تجاهل حقائق يعرفها الجميع، فهو تقييم أحادي لا يقود إلى استنتاجات مثمرة ولا يساعد على فهم الصورة كاملة. فالمشهد الانتخابي محكوم بجملة عوامل بنيوية تجعل المنافسة غير عادلة منذ لحظتها الأولى:

قانون أحزاب معطل بقصدية.

1. فقدان ثقة ملايين العراقيين (ومنهم المدنيون) بالنظام السياسي وبالآليات الانتخابية، وميلهم للمقاطعة.

2. مال سياسي بلا سقف.

3. بيع وشراء أصوات.

4. استغلال الفقر والبطالة لشراء أعداد من المعوزين، مقابل المال أو الوعود الزائفة بتعيينهم في المؤسسات العسكرية والمدنية.

5. سلاح منفلت.

6. استخدام السلطة والنفوذ.

كل ذلك وغيره، يحدد النتائج قبل فتح الصناديق.

وعند دراسة كل المحددات التي تفتقر إلى شروط انتخابات عادلة، يستنتج المرء ببساطة أنه لا جدوى من المشاركة في انتخابات مُصمَّمة لإعادة إنتاج الطغمة، ومُحاطة بعوامل تجعل نتائجها محسومة قبل الاقتراع.

والحقيقة هنا لها وجهان:

1. الوجه الأول، أن جزءاً من جمهور التيار المدني عاقب القوى التي اشتركت بالانتخابات عبر المقاطعة والعزوف، لأنه رأى:-

أ‌. المشاركة في انتخابات مصمّمة لإعادة إنتاج الطغمة طريقاً مسدوداً، ومنح شرعية زائفة لطغمة هدفها تدوير نفسها، ومسك السلطة.

ب‌. الاشتراك في الانتخابات بثلاث قوائم مدنية منفصلة مثّل تشتيتاً مباشراً للقوة التصويتية، ودليلاً على ضعف إدراك لطبيعة القانون الانتخابي وآلياته الحاكمة. هذا التشرذم لم يفتح باباً للنجاح، بل أرسل إشارات سلبية للناخب، وأضعف القدرة على تحقيق أي مقعد، لأن القانون نفسه يعاقب التشتت ويكافئ التكتل.

ج‌. هناك من وجد في الاحتجاجات صيغة أخرى لمواجهة الفساد والمحاصصة. وبهذا المعنى، فإن الجمهور لم يدمر خياره، بل عبر عنه بوسيلة مختلفة.

2. والوجه الثاني، أن التيار المدني تعرض ويتعرض اليوم لواحدة من أشرس الهجمات:

أ‌. قمع مباشر خلف مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعوقين.

ب‌. انتقل اليوم إلى ملاحقات قانونية كيدية تستهدف تصريحاً غاضباً لشاب منفعل، أو هتافاً حماسياً لعشريني، أو خطاباً لم يُصَغْ بعناية.

ويمكن تلخيص العوامل الثلاثة التي أثرت بعمق على التيار المدني، ويعرفها كل مراقب نزيه:

أ‌. طبقة سياسية لا تسمح ببروز بديل، استحضرت أدوات الدكتاتور المقبور نفسها:(الترهيب والترغيب).

ب‌. انقسامات صُنعت بالإعلام والمال والتهديد.

ج‌. ثغرات ونواقص ذاتية من قبيل نخب ثقافية انشغلت بالمنابر أكثر مما انشغلت بالأرض.

ومع ذلك، لا شيء يلغي حقيقة أن جيلاً مدنياً جديداً يتشكل: أكثر وعياً، أقل تهيباً، وأشد باساً لكسر القوالب.

نفوذ وتأثير القوى المدنية لا تُقاس من خلال انتخابات شابتها الطعون وعمليات البيع والشراء، بل تُقاس بما صنعته:

وعي جديد، لغة جديدة، فضاء جديد، وجيل لم يعد يخاف أن يأخذ زمام المبادرة.

وتبقى القدرة كامنة، تنتظر فقط من يلتقط اللحظة ويحوّل الهزيمة إلى بداية جديدة، وهذه مسؤولية تاريخية كبيرة على الطيف المدني الوطني بكل تلاوينه ترميم أوضاعه الداخلية وسد الثغرات والعلل التي يعاني منها للنهوض بمسؤليته تجاه الشعب والوطن.