السوداني في مواجهة المالكي: هل يستطيع التلميذ أن يصبح المُعلّم؟

بغداد- العراق اليوم:

إلفاضل إبراهيم

الانتخابات العراقية القادمة ليست تصويتًا على مستقبل البلاد بقدر ما هي حرب باردة على السيطرة داخل البيت السياسي الشيعي

تبدو الانتخابات البرلمانية العراقية المقبلة بشكل متزايد وكأنها مواجهة شخصية بين اثنين من أبرز منافسيها: رئيس الوزراء الطموح محمد شياع السوداني من جهة، ونوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق لولايتين وأحد أعمدة النظام السياسي العراقي من جهة أخرى.

وصول الرجلين إلى هذه المرحلة هو ذروة دراما سياسية وشخصية معقدة: تلميذ يتمرد على معلمه. فعلى مدى سنوات، كان السوداني تلميذًا وفيًّا للمالكي، وعضوًا بارزًا في حزب الدعوة وجزءًا ثابتًا من ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي، كما شغل مناصب وزارية في حكوماته المتعاقبة. إلا أن ابتعاده التدريجي عن فلك المالكي سمح له، بعد سنوات، بأن يُقدَّم كمرشح توافقي عندما احتاج الإطار التنسيقي إلى رئيس وزراء عام 2022.

كان الجيل القديم يتوقع مديرًا مطيعًا ينفذ مصالحه، لكنه حصل على رجل تنفيذي بدأ باستخدام موارد الدولة لبناء قاعدة قوة خاصة به.

غير أن هذا الصراع الشخصي ليس سوى الواجهة الأوضح لمعركة أعمق وأوسع. فالانتخابات القادمة لن تحدد فقط من سيكون رئيس الوزراء، بل ستقرر أيضًا مستقبل الإطار التنسيقي نفسه، إذ إن الصراع الحقيقي لا يدور حول المنصب بقدر ما يدور حول التحكم في سياسات الحكومة المقبلة وتعييناتها وميزانياتها الضخمة.

وقد تم فعليًا تعليق الاتفاق الداخلي للإطار التنسيقي مؤقتًا خلال هذه الانتخابات، إذ تتنافس مكوناته: ائتلاف دولة القانون (المالكي)، ومنظمة بدر (هادي العامري)، وعصائب أهل الحق (قيس الخزعلي)، وائتلاف السوداني الصاعد ضد بعضهم البعض. لكن هذا لا يعني تفككًا حقيقيًا، لأن النية المعلنة هي إعادة التوحد بعد الانتخابات. وقد أكّد المالكي ذلك صراحة بقوله: «بعد الانتخابات نحن كتلة واحدة».

الهدف هو إعادة تجميع القوة لتشكيل “الكتلة الأكبر” في البرلمان، ما يمنحهم الحق الدستوري في تسمية رئيس الوزراء.

ويستند هذا إلى قرار المحكمة الاتحادية العليا عام 2010 الذي عرّف “الكتلة الأكبر” بأنها أي تحالف يُشكَّل بعد الانتخابات، لا الفائز بالتصويت الشعبي، ما أضفى شرعية على نظام يسمح بتجاوز إرادة الناخبين عبر صفقات الغرف المغلقة.

صعد السوداني إلى السلطة بدعم من هذا الكارتل نفسه الذي ينافسه الآن. وقد سعى خلال ولايته إلى تقديم نفسه بصورة مغايرة عن ساسة الميليشيات الذين أوصلوه إلى الحكم، مستندًا إلى شعار «إعمار وتنمية»، ومستخدمًا قوة المنصب لتوجيه موارد الدولة إلى مشاريع ملموسة كالجسور والطرق والأشغال العامة، لبناء علامة سياسية تقوم على الخدمات. كما قام بتوسيع الجهاز الإداري للدولة بشكل كبير، ما خلق له قاعدة واسعة داخل البيروقراطية.

يهدف السوداني إلى تغيير معادلة القوة، عبر تقديم نفسه كـ«قائد وطني» بخطاب غير طائفي وتقني، وموازنة دقيقة بين واشنطن وطهران. وقد حظي بإشادات دولية، من بينها إشادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بـ«أجندته الكبيرة للعراق».

وهذا الخطاب يلقى صدىً واسعًا بين شرائح العراقيين، من السُّنة والأكراد والشيعة المستائين من الانقسامات الطائفية، والذين باتوا يفضلون الكفاءة على الشعارات الأيديولوجية. ومن خلال خوضه الانتخابات بقائمة مستقلة، يسعى السوداني لإثبات أن شرعيته الشعبية تتفوق على شرعية النخب التقليدية داخل الإطار التنسيقي.

أما بالنسبة للمالكي، فتمثل هذه الانتخابات فرصة لاستعادة سلطته كعرّاب للنظام السياسي بعد 2003. فهو يرى في مشروع السوداني انحرافًا خطيرًا، إذ يؤمن أن القوة تُستمد من توافقات زعماء المكونات داخل الإطار، لا من “إرادة الشارع”.

الصراع بينهما محتدم. فبعد مكالمة متوترة بين وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو والسوداني طالبت بنزع سلاح الفصائل المدعومة من إيران، اتهم قيادي في ائتلاف المالكي حكومة السوداني بأنها «تابعة للإملاءات الأميركية».

المالكي نفسه يوجّه انتقادات محسوبة، إذ يرى أن السوداني يمتلك ميزة انتخابية غير عادلة بصفته رئيسًا للوزراء يسيطر على موارد الدولة، مطالبًا بمنعه من الترشح. كما وصف مشاريع الإعمار الحكومية بأنها «استغلال لموارد الدولة لأغراض انتخابية»، مستشهدًا بتوزيع 8600 “رسالة شكر” لموظفين حكوميين بوصفها دعاية انتخابية مقنّعة.

ورغم إقراره بوجود جهود إعمار حقيقية، وصفها بأنها «دون المستوى المطلوب»، في انتقاد مدروس يهدف إلى تقويض خطاب السوداني دون الظهور بمظهر المعطل.

وفي مقابلة تلفزيونية، قدّم المالكي نفسه كـ“حارس بوابة” رئاسة الوزراء، قائلاً إن عشرة مرشحين تم عرضهم عليه لتقييمهم، مشيرًا ضمنيًا إلى أن حتى السوداني نفسه لن يتمكن من البقاء إلا إذا “احتضنه الإطار التنسيقي”. الرسالة واضحة: الطريق إلى رئاسة الوزراء يمر عبر بوابة الإطار، والمالكي من أبرز من يملك مفاتيحها.

لكن تحديات السوداني لا تقتصر على خصومه داخل الإطار؛ فهناك عاملان خارجيان يزيدان الموقف تعقيدًا:

أولاً، مقاطعة مقتدى الصدر للانتخابات، ما سيخفض نسبة المشاركة ويمنح خصومه المزيد من المقاعد. ومع ذلك، فإن خطاب السوداني ضد الفساد وبناء الدولة يجذب شريحة من جمهور الصدر الباحث عن بديل واقعي، بخلاف المالكي الذي يُنظر إليه كرمز للتشدد. إلا أن الصدر يبقى ورقة غير متوقعة، قادرًا على تحريك الشارع إذا رأى أن النتائج غير شرعية.

ثانيًا، الضغوط المتصاعدة من إدارة ترامب، حيث كانت مكالمة روبيو-السوداني الأخيرة مؤشرًا واضحًا على تحول في نبرة واشنطن. فالبيان الأميركي شدد على “ضرورة نزع سلاح الفصائل المدعومة من إيران التي تقوّض سيادة العراق وتنهب موارده”، في حين ردّ البيان العراقي بصيغة مخففة وحذرة تتحدث عن “الشراكة” وتحذر من “الخطوات الأحادية”.

هذا التباين يعكس صعوبة الموقف الذي يواجهه السوداني: فإذا تحدى واشنطن يخاطر بعزل اقتصادي للعراق، وإذا خضع لضغوطها فقد يواجه رد فعل عنيفًا من حلفائه داخل الإطار.

وقد زاد تعيين واشنطن مارك سافايا، رجل أعمال موالٍ لترامب مبعوثًا خاصًا، من مؤشرات تشدد النهج الأميركي في المرحلة المقبلة.

حتى لو حصل السوداني على مقاعد أكثر من المالكي، فإن طريقه إلى ولاية ثانية ضيق وشائك. فهو يحتاج أولًا إلى تفوق واضح داخل الساحة الشيعية، وثانيًا إلى إعادة تشكيل تحالف جديد: إما بفرض توازن جديد داخل الإطار، أو بتشكيل أغلبية وطنية تضم السنة والأكراد والمستقلين، متحديًا الحرس القديم.

لكن حتى في حال منعه من رئاسة الوزراء، فإن السوداني يلعب لعبة أطول مدى: أن يضمن لنفسه مكانًا محوريًا في السلطة، بمنصب نائب رئيس وزراء أو وزارات سيادية، ليحافظ على نفوذه ويكرس نفسه كقطب جديد داخل النظام السياسي.

في النهاية، يفرض هذا الصراع سؤالًا جوهريًا على النظام السياسي العراقي:

هل ستظل الشرعية تُمنح من قبل النخب المغلقة، أم يمكن أن تُكتسب من خلال عقد مباشر مع الشعب؟

والإجابة ستكشف ما إذا كان النظام العراقي قادرًا على التطور فعلًا