المشهد العراقي.. معركة الحرب والسياسة

من الصعب فصل المعركة العسكرية التي تخوضها القوات الأمنية العراقية والحشد الشعبي عن المعركة السياسية التي تبدو أكثر صعوبة وتعقيدا.. التعالق بين المعركتين هو الأفق الذي تتشكل به مظاهر التحوّل التي يواجه تحدياتها العراق الجديد، على مستوى صياغة أسس واضحة للنظام السياسي والنظام الاجتماعي، وعلى مستوى التوصيف الواقعي لهذا (العراق) المتعدد والمتنوع دينيا وقوميا وطائفيا وسياسيا.

تداعيات معركة تحرير الموصل لايمكن فصلها عن تداعيات المعركة السياسية، ودورها في التمهيد لوضع خارطة طريق جديدة تشترك فيها القوى السياسية، وتقبل بواقعيتها المكونات التي باتت تبحث عن (هوياتها) الغامضة، مثلما تبحث رموزها عن مصالحها وغنائمها، وعن أدوار لها  في المستقبل الخاضع لاحتمالات متعددة.

خطورة هذه المعارك يكمن في تعالقها مع معطيات الصراعات الدولية والاقليمية، وفي الاغفال عن حساسيتها إزاء التمثلات الطائفية في العراق، والتي تكشف في جوهرها عن عقد تاريخية، وعن مفاهيم رسخها الوهم السلفي، وانماط الحكم الاستبدادي في اللاوعي الجمعي، فالقبول (الديمقراطي) بالوجود الشيعي يصطدم عند البعض بمرجعيات التكفير (السلفي) والتي تضع الشيعة/ الجماعة والطائفة في سياق الخروج عن (الأمة) كما تقول بعض الفتاوى، وهذا  الفهم اللاعقلاني يتقاطع مع طبيعة الواقع الذي يعيش تمظهراته العراق الجديد، ونظرة قواه الجديدة  لمفاهيم السلطة والحكم والمقدّس، مثلما أنّ العودة الى وهم الحكم القديم بمرجعياته الطائفية بات ضربا من الخيال، وسيصطدم مع معطيات واقعية لها تمثلاتها السياسية والاجتماعية والحقوقية في منظومة الحكم السياسي في العراق.

ما حدث في العراق منذ عام 2003 يكشف في جوهره عن رفض للاحتلال من جانب محدود، لكنه يكشف في  جانب أكبر منه، رفضا واضحا لما تحقق في الواقع السياسي، وفي بروز واضح لمشاركة الشيعة في ادارة الدولة، وفي ترسيم هوية العراق الجديد، واحسب أنّ ماحدث خلال عام 2014 من احتلال ارهابي تكفيري لعديد من المدن العراقية يؤكد - في جوهره -  هذا (الرفض) الطائفي، من خلال معطياته العسكرية، أومن خلال التلويح بالدخول الى بغداد وتهديد العتبات المقدّسة عند الشيعة.



أوهام العسكرة.. أوهام السياسة

ردة الفعل التي ظهرت جلية بعد فتوى المرجع الكبير السيد السيستاني بالجهاد الكفائي تحوّلت الى قوة سيميائية للتعبير عن الرفض، والقبول بفرضية استعادة وهم الدولة القديمة، بسياقاتها الطائفية والجماعاتية، وبمنظومتها القومانية، وهو ما استدعى بالمقابل انتاج مايمكن تسميتها بـ(التشكيلات الصيانية) التي تدافع عن وجود مجتمعها الديموغرافي والهوياتي، فضلا عن أنّ حضورها العسكري والمؤسساتي تحوّل الى حضورٍ فاعل للقوة الضد، والتي 

أسهمت  في قطع الطريق على تمدد الجماعات الارهابية، وقيادة المعركة الكبرى لتحرير المدن التي اغتصبتها تلك الجماعات.

ظهور التشكيلات الصيانية انعكس بشكل واضح على مشهد المعركة العسكرية، والمعركة السياسية، وأفشل أوهام (التوصيف الطائفي) عند البعض، مثلما أربك رهانات القوى الاقليمية والدولية، وفرض واقعا جديدا، باتت حساباته حاضرة في المعادلات السياسية والعسكرية والدبلوماسية، وربما دفعها الى المزيد من التعقيد، من خلال الاندفاع نحو سياسات الخنادق والأجندات، والبحث عن مرجعيات ذات أوهام طائفية وليست سياسية.

منطلقات هذه القراءة لا ترتبط بطبيعة الفوضى الحادثة في المشهد السياسي العراقي، بل بواقعية ما تمخض من معطيات ونتائج، أسهمت في الرهان عليها قوى سياسية داخلية واقليمية، والتي وجدت في الفوضى وفي الفساد وفي تشوهات التحوّل السياسي مجالا لتعطيب العملية السياسية، وتعطيلها، اخضاع هذه العملية الى توصيفات طائفية مجردة، أبعدها عن القيام بأية مراجعة حقيقية للوقائع العراقية ماقبل 2003 والتعرّف على الاسباب الحقيقية المسؤولة عن احتلال العراق من قبل اميركا ودول التحالف، فضلا عن القيام برصد واقعي لتضخم الأوهام التي حاول  البعض الترويج لها لمجريات ماحدث بعد 2003، والتي أقسرت توصيف عملية التغيير السياسي بحدوده الطائفية فقط، بعيدا عن النظر الى أية مرجعية سياسية وأمنية، لا سيما المعطيات التي تمخضت من خلال اجتماعات المعارضات العراقية في الخارج في مرحلة ما قبل التغيير، والتي اقترحت خارطة سياسية تقوم على المشاركة، والقبول بمدنية الدولة وتنوع مرجعياتها السياسية والثقافية والديموغرافية، فضلا عن الأطر  التي اسهمت في صياغتها الولايات المتحدة عبر (حاكميتها) وعبر سوء قراءتها للمشهد العراقي، والتي كان لها دور واضح في تنميط العملية السياسية وتشويهها مـــــــــؤسساتيا وثقـــــــــــافيا وحقوقيا.

علق هنا