لماذا استدعى فالح حسون الدراجي كارل ماركس إلى مدينة الثورة ؟

بغداد- العراق اليوم:

بقلم: حيدر قاسم

  في عمل جديد وموسوعي، يضيء الشاعر والصحفي العراقي المعروف فالح حسون الدراجي على القارئ العراقي مجدداً، عبر إصدار أدبي وصحفي موسع يتناول فيه واحدة من أهم المدن العراقية الحديثة، بل لعله يعيد رسم خريطتها الوجدانية والاجتماعية، إنها مدينة الثورة، التي لم تغيّرها تبدلات الاسماء ولا التحولات السياسية، بقدر ما رسّخت هويتها التاريخية في وجدان أهلها وذاكرة العراق الحديث.

 في كتابه الجديد “كارل ماركس في مدينة الثورة”، و بعنوان فرعي “مقالات وحكايات عن مدينة النجوم رغم ظلمة الأزمان “ ينطلق الدراجي من زاوية غير مألوفة، تستدعي اسم المفكر الاقتصادي الكبير كارل ماركس ليضعه في قلب مدينة شعبية تميزت بالتمرد والثورية والانحياز للفقراء، وكأن الرجل يستحضر روح الصراع الطبقي الذي شكّل أساس النظرية الماركسية، ليجده حياً وملموساً في شوارع وأسواق ومقاهي مدينة الثورة، وفي سلوك ساكنيها ومزاجهم السياسي والاجتماعي.

الدراجي، الذي عُرف في الأوساط العراقية شاعراً مُجيداً منذ بداياته، برز على مدى العقود الماضية كأحد أهم كُتّاب المقالة الصحفية العراقية، جامعاً بين الجزالة اللغوية، ورشاقة الأسلوب، وخفة الظل، وهي صفات قلّما تجتمع في كاتب عمود يومي. 

لكنهُ فوق ذلك كلّه، يتميز بسمة نادرة: العمق الفكري، والانشغال الحقيقي بواقع الناس وتفاصيلهم الصغيرة والكبيرة.

ولعل هذا ما يجعل فالح حسون الدراجي كاتباً شعبياً من طراز خاص، ليس بالمعنى التبسيطي، وإنما لأنه لا ينفصل عن الناس، بل يعيش وسطهم ويتنفس وجعهم وأحلامهم، ويترجمها في كتاباته اليومية التي لم تنقطع على مدى أكثر من عقدين، لاسيما بعد أن أسس صحيفته اليومية الوطنية ( الحقيقة ) في بغداد، والتي أصبحت نافذة ثابتة لقرّاء كثر داخل العراق وخارجه.

 من هنا، جاء الكتاب الجديد بمثابة تتويج لتجربة طويلة من المقالة اليومية التي تمزج بين الأدب والتاريخ والواقع السياسي والاجتماعي. 

فهو لا يجمع تلك المقالات المتناثرة كما هي، بل يعيد تنقيحها واختيار أفضلها، لينسج منها لوحة بانورامية متكاملة عن مدينة الثورة، بكل تفاصيلها وزواياها الإنسانية.

 في أكثر من 400 صفحة، يأخذنا الدراجي في رحلة أدبية وتوثيقية خصبة إلى مدينة الثورة كما لم نرها من قبل:

أسواقها، شوارعها، مدارسها، أدبائها، فنانيها، شعرائها، رياضييها، نسائها، رموزها، أحزابها، وحتى “مجانينها الظرفاء” كما يسميهم.

 إنه لا يتحدث فقط عن المكان، بل عن الإنسان، عن الروح الثورية التي سكنت هذه المدينة منذ تأسيسها على يد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، الذي بقيت المدينة وفيةً لاسمه رغم محاولات تغيير الاسم على مرّ الحكومات والعهود.

هذا الوفاء هو في جوهره تعبير عن تمسك المدينة بهويتها الثورية، وانحيازها التاريخي للفكر التقدمي، الذي يرى  فيه الدراجي ملاذاً أخلاقياً وفكرياً في وجه الفساد والطائفية والاستغلال.

لذلك، لم يكن مستغرباً أن يضع عنواناً يحيل إلى ماركس، المفكر الذي كان الصراع الطبقي حجر الزاوية في نظريته، ذلك أن مدينة الثورة كانت بحق مختبراً حياً لهذه النظرية، بل ميداناً دامغاً لتجلياتها الواقعية.

 من خلال هذه الرؤية، لا يكتب الدراجي سردًا صحفياً بارداً، بل يصنع نصاً حياً يتحرك بين الوثيقة والقصيدة، بين العمود الصحفي والسرد التاريخي، بين السيرة الذاتية، والذاكرة الجمعية، وهو بذلك يعيد للمدينة اعتبارها الثقافي، لا بوصفها مجرد حاضنة للفقر والتهميش، كما اعتادت بعض الخطابات السياسية أن تصفها، بل بوصفها مدينة العطاء الثقافي، والنضال السياسي، والوفاء الوطني.

المهم أيضاً، أن الدراجي لا يقدم “كارل ماركس في مدينة الثورة” كعمل توثيقي فقط، بل يُلبسه طابعاً وجدانيا وإنسانياً عميقاً، يجعل من قراءة الكتاب تجربة شعورية مفعمة بالحنين والمعرفة معًا.

 الكتاب  بمثابة سفر حضاري داخل مدينة شعبية. 

 وقد نجح المؤلف في المزج بين المعايشة المباشرة وبين التأمل الفكري العميق، حتى بدا وكأن مدينة الثورة تتحول إلى “بطلة” حقيقية لهذا العمل، بكل ما تحمله من تناقضات ومآسٍ وآمال، لا كديكور روائي، بل ككيان حي ينبض في كل سطر.

 ويكفي أن نذكر أن الدراجي لم يغفل أحدًا في استعراضه، فكما كتب عن الشعراء والوجهاء، كتب عن العمال والمثقفين، عن النساء المكافحات، وعن التلاميذ في المدارس الفقيرة، عن الحالمين والمناضلين والمهمشين، عن الباعة الجوالين، ليقول إن هذه المدينة التي اعتاد البعض على اختزالها في البؤس، هي في الحقيقة مرآة كاملة للروح العراقية الأصيلة.

ليس “كارل ماركس في مدينة الثورة” نهاية المطاف لهذا الكاتب الغزير، بل هو محطة كبيرة من محطات مشروعه التوثيقي الطويل، الذي لا يبدو أنه سيتوقف قريباً، ذلك أن لدى فالح حسون الدراجي أرشيفاً ثرياً ما زال بانتظار الجمع، كما أن لديه الكثير ليقوله، لا بل ربما الأهم، لم يُكتب بعد.

 وبهذا الإصدار، يثبت الدراجي مجدداً أنه لا يكتب المقالة الصحفية فقط، بل يصنع منها أدباً رفيعاً، وذاكرة حية، و حساً وطنياً عابراً للزمن والمكان.

علق هنا