كيف نجا محمد عبد الوهاب من اتهامات سرقة الموسيقى؟

بغداد- العراق اليوم:

هل تعرف أغنية “يا مسافر وحدك” التي لحنها وغناها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب؟

أغنية رائعة بالتأكيد في رأي كثيرين، وتحدث عنها عبد الوهاب قائلًا إنها مثَّلت تطورًا كبيرًا في الموسيقى وقت صدورها، وغناها كثيرون بعده، بدايةً من نجاة الصغيرة إلى التونسية غالية بن علي، لكن أغلب الناس قد لا يعلمون أن مقدمتها الموسيقية والجملة اللحنية الرئيسية فيها مأخوذة من أغنية “Poso Lypamai” للمطربة اليونانية “صوفيا فيمبو”.

بعيدًا عن السؤال الذي قُتل بحثًا وكلامًا عمَّا إذا كان عبد الوهاب سارقًا أو مقتبسًا، كيف أدار موسيقار الأجيال منجَزه الموسيقي؟ وكيف تعامل مع اتهامات السرقة التي لاحقته طَوَال حياته المديدة، وهي اتهامات قد تقضي بسهولة على أي فنان؟

محمد عبد الوهاب: لم توقفه عثرة

يحكي أستاذ الموسيقى العربية الدكتور نبيل شوره، في كتابه “الياقوتة الأولى في تاج الموسيقى العربية”، أن عبد الوهاب يجيب عن هذه التساؤلات بطريقة غير مباشرة، ويعدد منجزات الرجل الكثيرة التي لا يمكن اختزالها في مشهد واحد، إذ طوَّر الموسيقار الكبير شكل الأغنية العربية وتمرد على الأداء التقليدي للغناء، فتخلص من الزركشة المبالَغ فيها، إلا في أمور بسيطة مثل أداء “القفلة المصرية”، وهو الشكل اللحني الذي تنتهي به الجملة حين ينطقها المطرب.

ارتقى عبد الوهاب كذلك بالقصيدة، حين بدأ انتقاء كلمات لشعراء كبار مثل أحمد شوقي وعلي محمود طه. أما على مستوى اللحن، فقد كسر الرجل الشكل التقليدي لتلحين القصيدة وجعلها متنوعة الإيقاعات، كما خلَّصها من المبالغة في أداء المواويل والارتجال، ونجد ذلك واضحًا في مرحلة قصائد “الجندول” و”الكرنك” و”كليوباترا”.

وفي مرحلة متقدمة، قدَّم عبد الوهاب القصيدة التعبيرية، التي يهدف لحنها إلى التعبير عن معاني الكلام والإحساس به أولًا، ثم تأتي جماليات الغناء في المقام الثاني، بحسب شوره، ومن أبرز ما قدمه في هذا المقام قصيدة “لا تكذبي” وأغنية “فاتت جنبنا”.

يذكر شوره أن عبد الوهاب هو من قدَّم أغاني الأفلام، مثل “انسى الدنيا” و”بلاش تبوسني”، وقدَّم كذلك الديالوج الغنائي مثل “حكيم عيون”.

طوَّر عبد الوهاب الفرقة الموسيقية، إذ أدخل عديدًا من الآلات الموسيقية الجديدة عليها، مثل التشيللو والكونتراباص والجيتار والماندولين والبيانو والأبوا والأكورديون والجيتار الكهربائي والمثلث والكاستانيت وآلات النفخ النحاسية والخشبية، كما أدخل بعض الإيقاعات الغربية في عديد من أعماله، مثل الرومبا والسامبا والتانجو، ممَّا جعل الأغنية العربية تصل إلى العالمية.

هذه الإنجازات الكبيرة لا يمكن بأي حال أن تقف على عثرة، مثل الجدل حول اقتباس موسيقار ترك لنا مئات الألحان الأصلية.

صداع” الاقتباس: لا يعنيني كيف تسمونه"

رغم ذلك، فالجدل حول موسيقار الأجيال لم يقف عند إضافاته إلى التخت العربي وحده، بل امتد إلى “الإضافات” التي دمجها في ألحانه من الموسيقى العالمية. أغلب هذه “الاقتباسات” كان في المرحلة التي تلت معرفة الناس به، لرغبته في تقديم جديد إلى جمهوره، وهي المرحلة التي بدأت في ثلاثينيات القرن العشرين كما تروي رتيبة الحفني، التي تولت عمادة معهد الموسيقى العربية في القاهرة ورئاسة دار الأوبرا، في كتابها “محمد عبد الوهاب: حياته وفنه”.

أحد الأعمال التي يتضح فيها النقل أغنية “أحب عيشة الحرية”، وهي منقولة حرفيًّا من السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، المعروفة باسم “ضربة القدر”. ويتضح كذلك اقتباس لحن قصيدة “جفنه علَّم الغزل” من لحن “El Manisero” للموسيقار الكوبي دون أزبيازو، وهو ما يُلاحَظ في الإيقاع والجملة اللحنية الرئيسية التي يؤدي عليها الكلمات.

اتهم كثيرون عبد الوهاب بالاقتباس، منهم الأديب والشاعر المصري عبد المنعم السباعي الذي كتب مقالًا في مجلة “صباح الخير” يتهمه بالاقتباس من الموسيقيين زكريا أحمد وكمال الطويل وعبد العظيم عبد الحق، وكذلك اتهمه الموسيقار رؤوف ذهني بسرقته خلال عمله في مكتبه.

وفي مقال نشره بمجلة “روز اليوسف” عام 1991 بعد وفاة عبد الوهاب، كتب الناقد طارق الشناوي أن الموسيقار محمد الموجي حكى له أن عبد الوهاب سرق منه لحن “أحبك وإنت فاكرني وأحبك وإنت ناسيني”، وأن الموجي غضب من هذا التصرف، فقال له عبد الوهاب إن “الأب عندما يُعجب بربطة عنق أحد أبنائه لأنها تليق على بدلته، فما المانع في أن يستعيره؟”.

ويشير الموسيقار العراقي منير بشير إلى أن عبد الوهاب نقل قطعًا موسيقية من مجتمعات سبقت العرب حضاريًّا، مثل ألحان بيتهوفن وتشايكوفكسي، وأعاد توزيعها على آلات شرقية، معتبرًا أن عبد الوهاب لو كان فعل ما فعله في أوروبا لاعتُبر جريمة وقُدِّم إلى المحاكمة.

لكن الحفني تذكر أن الانتقادات التي واجهها عبد الوهاب كانت كفيلة بالقضاء عليه لو لم يمتلك فنًّا يواجهها به.

النهر الخالد: لا تسجنوني داخل فني

لم ينكر محمد عبد الوهاب اقتباساته، وفي أحد لقاءاته التليفزيونية ردَّ على الإعلامية ليلى رستم بأن الفن تفاعُل، وعلى الفنان المتطور أن لا يسجن نفسه داخل فنه، بل يفتح أبوابه لكل التيارات الفنية فيهضمها ثم يعيد إنتاجها، لكن المنتَج الجديد لا بد أن يحتوي على إضافة، ثم وضَّح أنه لا يعنيه إذا أُطلق على هذا الخلق الجديد “اقتباس” أو “تأثُّر”.

دافع المايسترو سليم سحاب عن عبد الوهاب، وقال إن منظمة “اليونسكو” العالمية حصرت ما أخذه من أعمال عالمية في 13 لحنًا من مئات الألحان التي قدمها الرجل، لكنها ليست سرقة بل اقتباسًا سبقه إليه عظماء كثيرون، مثل تشايكوفسكي وباخ وموزارت وبيتهوفن، والأخير اقتبس سيمفونيته الخامسة من رقصة “تارنتيلا” الإيطالية، ثم عاد عبد الوهاب ليقتبسها في لحن “أحب عيشة الحرية”.

ورغم إزعاج الاتهامات، كان عبد الوهاب محل تقدير كثيرين، ومنحته جمعية الملحنين والمؤلفين في باريس لقب “فنان عالمي” عام 1983، وأعطته قاعة “ألبرت” الملكية في لندن عصا القيادة الفضية عام 1988، كما كان أول مطرب عربي يحصل على الاسطوانة البلاتينية في 1978 من اتحاد شركات الإنتاج الموسيقي العالمية (EMI)، وحاز لقب “الموسيقار العربي الأول” عام 1975، بحسب ما ذكرت رتيبة الحفني.

ربما لو لم يقتبس عبد الوهاب لكان قد حصل على جائزة “اليونسكو”، التي مُنحت إلى رياض السنباطي عام 1977 كأول عربي يحصل عليها. وذكرت المنظمة أنها اختارت السنباطي لأنه أثَّر بموسيقاه في منطقة لديها بالفعل موروثها الحضاري ولم يتأثر بموسيقى أجنبية، في ما قد يبدو كإشارة إلى عبد الوهاب.

ظلَّ عبد الوهاب يُعطي الفن حتى آخر نفس في حياته، عطاءً ترجمه بمئات الألحان على مدار 60 عامًا أو يزيد، حصيلة فنية ضخمة للغاية، جعلته يتحدث بأريحية إلى صديقه الكاتب المصري مصطفى محمود، قائلًا إنه ينوي أن يقابل الله حين يموت “بشوية غُنا”.

علق هنا