بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
في البدء، اودّ ان أشير إلى أن دخولي إلى الميدان الثقافي قبل خمسين عاماً ونيف، قد جاء عبر البوابة السياسية، وعلى هذا الأساس لا غيره اخترت الشعر الشعبي، وليس الشعر الفصيح، لظني بل ويقيني أن القصيدة الشعبية أقصر الطرق لإيصال الرسائل والأفكار والمعتقدات إلى قلب المتلقي - أي المواطن - ومن ثم إلى عقله .. وأجزم أن مظفر النواب المزدحم بالمواهب الأدبية والفنية اختار الشعر الشعبي لأسباب سياسية محضة، بدليل أنه لم يتوجه نحو كتابة القصيدة الفصحى إلا بعد أن غادر العراق.. وهنا أودّ أن أشير -معترفاً- إلى أني كنت ومازلت حتى هذه اللحظة أنظر إلى جميع الفنون من الزاوية السياسية اولاً، فأنحاز مثلاً الى الأغنية التقدمية، ذات النص التقدمي الذي يظهر المعاني الإنسانية النبيلة، واللحن الذي يدافع عن الإنسان الكادح المستلب، والصوت الذي يدعو إلى مساواة المرأة، ويدافع عن الشعوب المستعبدة، قبل أن أبحث في المزايا الفنية والجمالية الأخرى. ومن الزاوية نفسها أنظر إلى اللوحة والصورة والسمفونية وبقية فنون الإبداع والجمال.. وكي أكون واضحاً في اعترافي أقول: إني لم أرَ معرضاً تشكيلياً واحداً في حياتي قبل معرفتي بـ ( جدارية فائق حسن)، والفضل في ذلك يعود للشاعر سعدي يوسف - الذي كنت أحبه جداً- إذ لولا قصيدته العظيمة عن تلك الجدارية و تلك (الحمامات التي تطير في ساحة الطيران) لما عرفت فائق حسن، ولا غيره.. ومن (الزاوية السياسية) ذاتها، تعرفت على كبار الفنانين التشكيليين اليساريين في العراق، مثل محمود صبري وقتيبة الشيخ نوري وفيصل لعيبي ويحيى الشيخ ومحمد سعيد الصكار وعفيفة لعيبي وغيرهم .. وشيئاً فشيئاً صرت أحضر المعارض التشكيلية سواء أكانت بدعوة من أصحاب المعارض أنفسهم، او أذهب برفقة الأصدقاء والزملاء المهتمين بالفن التشكيلي ..وكي أسد ثغرة ( النقص) في ثقافتي التشكيلية، اخترت الزميل المبدع والصديق الجميل رحيم يوسف للعمل معنا في (جريدة الحقيقة)، إعجاباً بكتاباته النقدية، وطمعاً في إثراء صفحات الجريدة بما لا يتوفر فيها مثله، كما هي فرصة أردت استغلالها لزيادة معرفتي بالفن التشكيلي الذي أجهل الكثير من تفاصيله، والكثير من ابداع فنانيه ونجومه.. ولا أذيع سراً لو قلت، إني مازلت أتعامل مع اللوحة التشكيلية - حتى بعد أكثر من خمسين عاماً- بذات الرؤية السياسية، لذلك تجدني مثلاً أحب الرسام العالمي بيكاسو، ليس لأنه مؤسس الحركة التكعيبية في الفن، إنما لأنه أولاً أحد مفاخر الحركة الشيوعية العالمية، ولأنه أيضاً رسم حمامة السلام البيضاء، ولوحة جيرنيكا وغيرها .. قبل اكثر من اسبوع تلقيت بطاقة دعوة من الفنان التشكيلي عماد عاشور بواسطة صديقي الشاعر الجميل والصحفي المبدع حسن عبد الحميد لحضور معرضه الشخصي المعنون (نساء من بابل)، و المقام يوم الخميس الموافق الثاني عشر من شهر أيلول 2024 -في قاعة المركز الثقافي الفرنسي في بغداد.. ورغم أن موعد افتتاح المعرض (الساعة السادسة والنصف مساء) يأتي متزامناً مع موعد آخر التزمتُ به، إلا أني وبمجرد أن علمت أن الفنان عماد عاشور من (جماعة ربعنا) فضلت الذهاب إلى معرضه وتأجيل الموعد الثاني لساعة ونصف. وهكذا ذهبت إلى المركز الثقافي الفرنسي لأحضر معرض الفنان عماد عاشور دون أن أعرفه، او حتى اعرف شكله، فضلاً عن جهلي التام بتاريخه ومنجزه الفني، وطبعاً فإن العيب في ثقافتي العرجاء وليس في منجز عاشور الفني الذي سأقف مبهوراً أمام حجمه ونوعه وروعته الإبداعية والتاريخية.. والمشكلة، أني كنت أول شخص يحضر إلى المركز الثقافي الفرنسي، ولم يكن معي عند بوابة المركز في تلك الساعة سوى شخص واحد.. وللظروف الأمنية، فقد بالغ موظف الاستقبال (السكيورتي) في الاجراءات الأمنية، فهو لم يكتف بطلب الوثائق الشخصية لكل زائر، إنما راح يطلب منك اسمك، ليطابقه مع بطاقتك الشخصية، وكأنك في مطار هيثرو ..! قلت له بضجر وصوت عال: فالح حسون الدراجي.. وقبل أن ينطق الزائر الثاني باسمه أيضاً، نظر لي نظرة ودية، ثم توجه لموظف الاستقبال قائلاً بهدوء: عماد عاشور أنا عماد عاشور .. ثم دخلنا سوياً نحو قاعة المركز، فتح عماد امامي الباب بتواضع، ثم ابتسم لي وقال: أمس اخبرني الاخ حسن عبد الحميد بوجودك، وطلب مني دعوتك لحضور المعرض، فسعدت بذلك، أرجو ان تكون الدعوة قد وصلتك.. شكرته على ذلك .. ولاننا جئنا قبل الموعد بساعة تقريباً، فقد جلسنا وحدنا في الطابق الأسفل. وللحق فقد سعدت كثيراً بهذا اللقاء الذي تحدثنا فيه عن الوضع الثقافي والفني لاسيما التشكيلي، كما تحدثنا عن مدن جميلة مثل براغ التي زرتها، وزارها بل وعاش فيها عاشور ايضاً، ولا اخفي عليكم فقد استفدت في (الساعة) التي جلست فيها مع هذا الكائن الرقيق، المزدحم بالنبل والتواضع والوعي، والوطنية، والايمان بقدرة الإنسان على تحقيق الأجمل و الأفضل للحياة الإنسانية.. لقد تحدث الرجل عن أشياء كثيرة ولم يتحدث قط عن نفسه فتصورت أنه لا يملك (شيئاً)، لذلك يتحاشى المرور على منجزه الشخصي والتاريخي.. حتى جاءت لحظة الافتتاح.. وإذا بي أرى موهبته الفذة وهي تتجلى في هذا الكم الرائع من اللوحات الفنية الباهرة و المتقدمة شكلاً ومعنى.. وأسمع ايضاً من بعض الحضور كلاماً كبيراً عن منجزه الفاخر، وتاريخه الإبداعي الطويل، وحضوره الفني المميز، اضافة لمواقفه الوطنية والإنسانية المعروفة.. وللحق، فإني لم انتبه في البدء، لنوع وكم الحضور لمعرضه هذا، لكني وقبل أن أغادره، وجدت القاعة وقد غصت بالحاضرين.. بل كان الزحام شديداً عند الباب ايضاً، وكان من بين الحضور وزير الثقافة الأسبق، والقائد الشيوعي مفيد الجزائري، والروائي الدكتور جمال العتابي، والروائي ستار البيضاني.. وعدد كبير من الفنانين التشكيليين البارزين والشعراء، والمثقفين، ومتذوقي الفن التشكيلي، فضلاً عن الحضور الواسع والبارز للعنصر النسوي.. وطبعاً فإن سبب الحضور الكبير للمرأة في معرض عاشور لم يكُ واضحاً عندي إلا بعد رؤية وجوه النساء في لوحاته الملغومة بالأسى والتمييز والقهر والحرمان.. لقد تأكدت بضرس قاطع، ان (نساء بابل) لم تكن نساء بابل فحسب، إنما كنّ أيضاً ومازلنّ نساء القهر والوجع والتحدي، منذ ظهور سلطة الرجل في التاريخ حتى هذه اللحظة.. ألم أقل لكم إني أثق جداً بإبداعات جميع الفنانين التقدميين، لذلك تروني احضر معارضهم واتابع منجزهم (عمياوي) وبدون معرفة مسبقة .. والدليل: عماد عاشور ..!
اضافة التعليق