بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
يقول الكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي : (ذكريات كل إنسان هي أدبه الخاص) ..
ولأني مؤمن إيماناً قاطعاً بهذه الفكرة، فكرة تحويل الكاتب لسجل ذكرياته المنقوش على جدارَي القلب والذاكرة، وجعل هذه الذكريات منجزاً أدبياً، أو على الأقل جعلها كنزاً او خزيناً جمالياً يمد موهبته بما يساعدها على مواصلة تحقيق المنجز الإبداعي بيسر حتى اليوم الأخير من حياته الإبداعية. ونتيجة لهذا الإيمان أجد نفسي مبهوراً ومفتوناً بذكرياتي التي كثيراً ما احولها إلى منجز شعري او غنائي، او حتى مقال صحفي، ولكن بطعم أدبي او حكواتي شعبي .. ولهذا أيضاً لم أنقطع عن استخراج بعض من ضياء الذكريات المضموم في ذاكرة قلبي من سنوات صباي وشبابي في مدينة الثورة، او سنوات طفولتي في مدينة الكميت الحبيبة، والاستعانة به عند الحاجة الشعرية او الصحفية رغم أن خزين ذكرياتي ( الكميتي ) أصابه الكثير من الوهن والضعف بسبب تقادم السنين وضيمها الفاحش. وحتى لا تنطفئ شعلة هذه الذكريات ويختفي وهجها، كنت الوحيد في أسرتي الذي رفض نقل سجلات نفوسه من دائرة أحوال كميت إلى دائرة أحوال بغداد رغم مرور اربعة وستين عاماً على انتقال أسرتنا، وكانت حجتي في ذلك: عدم قطع خيوط الصلة مع الارض التي ولدت فيها أمي، وتزوج بها والدي، وولدت فيها مع شقيقي خيون وبعض الشقيقات.. لذلك كنت أستغل فرصة اجراء المعاملات، ولزوم حضوري شخصياً إلى كميت، لأجدد شباب ذاكرتي وقلبي، واتزود بمزيد من سلسبيل الجمال والطيبة والنقاء والكرم المنبثق من ينابيع كميت وقلوب أهلها الباهرين في العطاء. كميت الشاعر، وكميت القصيدة ..!
كميت (المدينة) .. هي إحدى نواحي محافظة ميسان، تبعد عن مدينة العمارة (مركز المحافظة) بمسافة 40 كم، مساحتها تبلغ 1695 كم2، يخترقها (دجلة الخير) ويقسمها لقسمين متحابين متواددين، يربط بينهما اليوم جسر كونكريتي ثابت، وقبله كان ثمة جسر خشبي يستند على الدواب (جمع دوبة) وهي نوع من الزوارق مربوطة ببعضها.. وكميت المدينة، سواء أكانت اليوم أو قبله، لوحة رسمتها الطبيعة بمزاج رائق، وجاءت الأقدار بساكنيها من قرى ونواح قريبة وبعيدة أيضاً، التمّ شملهم في هذه الأرض الخضراء قبل حوالي مائة وستين عاماً، ويحيطون بنهر دجلة إحاطة السوار بالمعصم.. حتى غدت مدينة فاتنة مثل قصيدة غزل لم يكتبها شاعر بعد.. ومما جعل اسمها مشاعاً، وشاعريتها مبهرة، أنها حملت اسم شاعر عربي عراقي فذ، بل وجاورت مقامه ومرقده أيضاً، وأقصد به ( شاعر الهاشميات)، الكميت بن زيد الأسدي.. وهكذا تحولت كميت من مدينة إلى قصيدة غزل وحب، وكرم، وفروسية، وجمال لا ينافسها فيه أي جمال. فرسان البطاقة الموحدة : وبناءً على ماتقدم، بات لزاماً عليّ استخراج البطاقة الوطنية الموحدة، وهذا يعني الذهاب إلى ناحية كميت التي تحول عنوانها إلى قضاء بدلاً من ناحية .. وهنا برزت أمامي مشكلة، فشروط البطاقة الوطنية تتطلب حضور صاحب الطلب شخصياً، وزوجتي تعرضت إلى وعكة صحية ألزمتها الفراش رغم أن هذه الوعكة بسيطة جداً، لكن مالعمل إذا امتنعت (المدام) عن السفر إلى كميت متحججة بالإنفلونزا ؟! وهنا اتصلت باللواء نشأت ابراهيم الخفاجي مدير عــــام مديرية الاحوال المدنية والجوازات، الذي أحتفظ برقم هاتفه منذ سنوات، لكن هاتفه مغلق، للأسف، فاعتقدت أن الرجل استبدل هذا الرقم، بخاصة وأني لم اتصل به منذ سنتين تقريباً.. لقد كان هذا الاتصال بمثابة الامل الأخير لي بمعالجة هذه المشكلة وحلها، لا سيما وأن اللواء نشأت معروف لدى الخاصة والعامة بأخلاقه العالية، وأدائه المهني الملتزم، وحرصه على مساعدة الجميع دون تفرقة أو استثناء .. وفي اليوم الثاني علمت أن اللواء نشأت خارج العراق، مضى إلى السعودية ليؤدي مناسك الحج. فقدمت طلباً إلى وزارة الداخلية.. وخلال ساعات قليلة اتصل بي العميد أحمد حديد المعموري مدير عام دائرة البطاقة الوطنية، ليسألني بكل ود عن الحالة، فأخبرته بمرض زوجتي وتعذر سفرها، فقال بكل هدوء: ولا تهتم بسيطة .. باچر تتم جميع الاجراءت في بيتكم دون الحاجة إلى سفرها.. ولكن هناك رسوم مالية مقررة من قبل الوزارة عليكم دفعها جزاء هذه الخدمة، فوافقت على الفور ، خاصة وأن الرسوم ليست عالية.. وفي اليوم الثاني، جاءت خلية البطاقة ( المتنقلة) إلى بيتي، بعد أن نفذت عدداً من الحالات المشابهة لحالتنا، وقد ضمت هذه الخلية الرائد ماجد صادق رحيم، والمفوض علي جحيل خليف.. وبكل أريحية ويسر واحترام تم تنفيذ جميع الاجراءات الفنية المطلوبة من زوجتي .. وحين حاولت إظهار بعض الكرم الجنوبي، وجدت الرائد ماجد يعتذر بأدب جم، وهو يقول بضرس قاطع: (هذا واجبنا عمو).
يا لروعة دائرة الأحوال المدنية في كميت ..
ذهبت إلى كميت قبل يومين بصحبة الصديق عباس غيلان، و قبل ان أغادر بغداد كنت قد اتصلت بالصديق أسامة صدام الموظف بدائرة الاحوال المدنية في قضاء كميت واخبرته بموعد قدومنا.. وما أن وصلت الارض التي تعطرت باريج تلك السنين الحميمة، حتى وجدت أهلي وناسي، وقبلهم الشوارع المزدحمة بالحنين، بل وجدت حتى أبواب البيوت العتيقة تنتظرني بألقها وطيبتها وكرمها وصدقها وعفويتها، وكان منتسبو دائرة الاحوال المدنية في قضاء كميت - وجلهم من ابناء المدينة- ينتظرون قدومي بفرح، ويحيطون بي بكل ما في قلوبهم من حب وصدق ونقاء، ولعل الأجمل أن آباء وأعمام اغلب هؤلاء المنتسبين كانوا اصدقائي وزملائي في المدرسة وفي الحياة أيام زمان..لذلك لايسعني في الحلقة الأولى من هذا التحقيق، إلا أن اتقدم بجزيل الشكر والامتنان إلى جميع المنتسبين، والى عوائلهم الكريمة التي زرعت فيهم هذه الحميمية العالية، وهذا الإخلاص المهني الرفيع .. لقد وجدت على السنة المراجعين الذين جاؤوا إلى هذه الدائرة من مختلف قرى قضاء كميت، كلاماً جميلاً لو نقلته لكم نصاً لاتهمني البعض بالتحيز، او ربما بالمبالغة.. فقد قالت لي مثلاً، إحدى القرويات التي جاءت مع ولدها لإنجاز (معاملة) البطاقة الموحدة: ( سأزور الإمام علي غداً، وأدعو لهؤلاء الشباب بالسلامة والحظ، والتوفيق، وأدعو لهم جميعاً - والعباس ابو فاضل- بالعافية والستر، وأن يكفيهم الله شر الهافي والمتعافي بحق الزهرة وأم البنين ..).. نعم، هذا كلام ورأي مواطنة جنوبية (كميتية)، لا تعرفني ولا تعرف من أكون.. سأكتفي بما قالته هذه السيدة النجيبة، وأذكر لكم أدناه أسماء فرسان البطاقة الوطنية الموحدة في قضاء كميت، لا من أجل شيء إلا لكي أبرئ ذمتي أمام الوطن والناس وأمام من يهمه مثل هذا التوثيق العادل والمنصف.
الأسماء: المقدم ايهاب علي جبر مدير البطاقة الوطنية / اسامه صدام / حسنين عبد الستار / طالب علي / احمد فالح / حسن شنون / محمد قاسم / عباس مشكور / فلاح عاشور/ مناف عبد الحسين / حيدر خلف / يعرب جبار / احمد حسين/ كرار علي / هدى حنون/ محمد عبود / وسام حميد / صادق جبار / ستار مغامس/ شوقي احمد /سلام نعمة ..
انتظروا الحلقة الثانية غداً وفيها مع الصور مادار وجرى في زيارتي لمضيف الشيخ العزيز علي فاخر الدراجي، وتلك الوليمة ( الدراجية) الفخمة التي أعدت لنا واكتملت خلال دقائق معدودة، وهو لعمري وقت (قياسي) يستحق التدوين دون شك، كما ستتضمن حلقة يوم غد زيارتي إلى بيتنا الكبير (بيت جدي عيسى العزوز)، ذلك البيت الذي شهد ولادة أمي، وزواج والديّ، ومسقط رأس شقيقي الشهيد خيون، ومسقط رأسي، ورؤوس شقيقاتي الأربع .. وفيه احكي لكم قصة الدموع التي ذرفتها أمس وأنا أقبل باب بيتنا هذا وأبلل بحرارة الدمع جداره العتيق جداً. كيف لا أبكي (بين يديه) ، وقد مضى على فراقه اكثر من ستين عاما..؟! كما سأحدثكم عن الليلة (الخرافية) التي قضيناها أمس في مدينة العمارة بصحبة الفنان الفذ كاظم فندي والشاعر الكبير سعدون قاسم، هي ليلة لن تعاد قطعاً، فقد عشنا فيها مع الحان كاظم فندي وقصائد سعدون قاسم وأنين وآهات الأحبة الحاضرين، ودموع سعدون قاسم التي لن تتوقف طيلة الجلسة.. لقد شعرت من شدة وعذوبة وسحرية تلك الليلة كأننا في محطة وداع أخيرة، وقطارين مغادرين لا محال.. (واحد يمشي للغرب والثاني للشرق) وقد لا يلتقيان مستقبلاً أبداً ..!
*
اضافة التعليق