بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
قبل ثلاثة وثلاثين عاماً، وفي مثل هذه الأيام، انطلقت الانتفاضة (الشعبانية) المجيدة، لتزلزل الأرض تحت أقدام النظام البعثي الدكتاتوري، وتهز كيانه، وتذهب بعقل رئيسه صدام حسين إلى حافة الجنون، بحيث لم يتحرج (القائد الضرورة) من أن يطلب من أعوانه في اجتماع سري، وبأوامر واضحة وصريحة، عدم التعامل بمبدأ الرحمة مع كل هدف يتحرك أو يمشي على الارض، كما طالبهم بقتل كل من يتعاون او يتعاطف مع المنتفضين، وأن لا يكتفوا بقتله وحده، إنما أمرهم بقتل عائلة المنتفض، وكل من له علاقة به أيضاً.. فضلاً عن حرق داره وممتلكاته، وقد رأى العالم عبر الشاشات كيف أن المجرم محمد حمزة الزبيدي رئيس وزراء النظام في فترة الانتفاضة، أصدر أمراً بحرق بيت ومضيف الشيخ البطل كاظم ريسان الگاصد أحد قادة الانتفاضة في سوق الشيوخ، وأظن أن مثل هذه الأفعال كانت كافية لكي تعطي صورة واضحة عن أخلاق ومعتقدات عصابة صدام.. ولأنها انتفاضة شعب مظلوم بوجه نظام دموي ظالم.. فقد شاركت أغلب طوائف الشعب العراقي فيها، كما شاركت مختلف القوى السياسية. وبقدر ما كان للإسلاميين حضور واضح في هذه الانتفاضة، كان للشيوعيين والعلمانيين أيضاً دور واضح فيها.. وأجزم أن أبناء محافظة الناصرية لاسيما في سوق الشيوخ مثلاً، يتذكرون أسماء الأبطال الشيوعيين الذين شاركوا واستشهدوا في هذه الانتفاضة، وهم يقاومون دبابات الطاغية حتى الرمق الأخير .. والشيء نفسه يقال عن السماوة والنجف والديوانية وغيرها.. ومع هذا يتوجب الاعتراف، بأن انتفاضة شعبان - آذار 1991 كانت شعبية عفوية غير مسيسة ولا مقادة من قبل أي طرف سياسي، أو أي طائفة، وهذا ما جعلها تنتشر وتتقدم، وتسقط سلطات البعث بسرعة فائقة، وفي الوقت نفسه، فقد كانت عفويتها احد اسباب فشلها، فغياب القيادة الخبيرة والمجربة عن إدارتها، جعلها تقف في منتصف الطريق دون ان تحقق الهدف الأعظم، المتمثل بإسقاط النظام.. أقول هذا وأنا اعلم أن هناك اسباباً اخرى أدت إلى ذلك، من بينها العامل الأمريكي الذي كان له دور كبير في استقواء النظام، وابادة المنتفضين، خاصة حين سمح لنظام صدام باستخدام طائراته المروحية والتحليق في سماء مناطق الانتفاضة، وضرب المنتفضين بالقذائف، وبالأسلحة الكيماوية حتى، رغم ان هذا التحليق كان محظوراً على النظام قبل ذلك ..! وعلى ذكر المجرمين، يجب أن لا ننسى فظاعات حسين كامل، بدءاً من اختياره ضرب مدينة (كربلاء) قبل غيرها.. إلى إشرافه بنفسه على قتل كل من يقع أسيراً بيده.. ومن الجدير بالذكر أن فرقة مدرعة كانت بإمرة حسين كامل، اضافة إلى بعض وحدات الحرس الجمهوري والحرس الخاص، وعناصر من الأمن الخاص، وبقايا المخابرات والأمن العام، وعدد من الحزبيين في كربلاء. كما انه قاد الهجوم بنفسه على كربلاء، وأمر بإطلاق قذائف الدبابات على قبتي الإمامين الحسين والعباس عليهما السلام، وهو الذي خاطب ضريح الإمام الحسين، بجملته الوقحة حين قال : (أنت حسين.. وأنا حسين) فصارت تلك الجملة وتلك الفعلة الخسيسة لعنة لن تفارق اسمه أبداً، ظل على إثرها وإثر غيرها موضع احتقار، وازدراء من قبل أبناء المكون السني قبل أبناء المكون الشيعي .. وعلى ذمة "ويكيلكس" الذي نشر وثيقة تقول إن صدام أعطى موافقته الشخصية لحسين كامل على ضرب القبتين، قائلاً له : "اضرب حتى القبب، وفلش رؤوسهم " ..! وتشير هذه الوثيقة الى ان حسين كامل، قام بضرب القبة الحسينية بدبابة تعود إلى دبابات الحرس الجمهوري الخاص، وبعد أن اطمأن من دقة إصابة الهدف، طلب طائرة سمتية وشاهد ثقوب القذائف وهي تطال القبة الطاهرة، ثم قام بإبلاغ صدام بذلك، فقال له صدام: احسنت، سوف يتم تكريمك من القيادة".
وأنا شخصياً لا أشك في ذلك قط، فقد كان صدام وقتها يائساً ومرعوباً جداً.. وأظن أن الناس رأوا وجهه وحالة الرعب التي كان بها في الفيديو الذي ظهر على شاشة التلفاز، وهو يجتمع بأعضاء ما تسمى (القيادة) ويهددهم بقوله: "كل واحد يتساهل او يتماهل في أداء واجبو ، راح أطرو اربع طرات، هاي المرة بعد ما بيها مجال هينوب " ..! وطبعاً فإن صدام وصل وقتها إلى ذروة الخوف، ولو لم يكن كذلك، لما ظهر بهذه العصبية، ولا تحدث قطعاً بهذه اللغة المكشوفة، وهو الحريص على الظهور متماسكاً، قوياً، رابط الجأش في الشدائد مهما عظمت واشتدت، لكنه تخلى هذه المرة عن تلك الشخصية، بعد أن وجد نظامه ينهار امامه، ورأى جموع الثوار تسحق سلطته في ثلاث عشرة محافظة .. نعم لقد تخلى صدام عن الظهور بصورته التمثيلية المرسومة له بعناية من قبل الدوائر المشرفة على البرستيج الخاص بهيئته القيادية، خاصة حين رأى الشعب يطلق النار على جدارياته ويدوس بأقدامه على صوره.. لذلك فإن ما حصل بعد ذلك الاجتماع، من جرائم صدامية يندى لها الجبين، وما لحق بالثوار وعوائلهم الأبرياء من قتل وتدمير وهدم وحرق بيوت، أمر شنيع لم ينكره أركان النظام أنفسهم، بل إن المسؤولين كانوا يصورون جرائمهم تلك بالفيديو، ويسربونها من أجل إرهاب الشعب اولاً، وللتفاخر امام زعيمهم ..! ورغم كل تلك الفظاعات التي يخجل التاريخ منها، نجد اليوم من يبرر لصدام وعصابته تلك الأفعال الدنيئة، بل ونجد من يمتدحها، ويشرعنها، بحجة الحفاظ على الأمن وهيبة الدولة والنظام ..! إن هؤلاء الذين يوجهون سهام النقد والحقد لصدر الإنتفاضة، ويتحدثون عن أخطاء ارتكبها بعض الثوار في غمرة الثورة وهيجانها، وهي أخطاء بسيطة جدا.. يتناسون حجم وكم الأذى والظلم والتهميش الذي تعرض له العراقيون في المحافظات عموماً، وفي الجنوب خصوصاً، على يد النظام الفاشي، فتراهم للأسف يصمتون إزاء تلك المجازر، وحفلات الموت المرعبة التي كان يقيمها يومياً عدي وقصي وعبد حمود وصدام كامل في (جملونات) الإبادة التي أنشئت خصيصاً لمعتقلي الانتفاضة في الرضوانية وغيرها.. وهنا دعوني أنقل لكم ماكتبه احد الرجال الذين شهدوا بعض تلك الجرائم ، حيث يقول هذا الشاهد : " في عام 1991، وبعد دخول قوات صدام كربلاء، وقمع الانتفاضة وضرب القبة، وحيث ينتشر الدمار في كل مكان، والجثث تنتشر بين أنقاض البنايات، وآلة الموت الصدامية تسحق بجنازير الدبابات كل شيء يتحرك، والقوات المختصة وأجهزتها الرهيبة تسوق الآلاف من الشباب إلى المذابح.. كنا حوالي ثلاث سيارات، والأجهزة تأخذنا لا نعرف إلى أين؟!.. ولكن باتجاه الصحراء خارج كربلاء. . وفي الطريق وجدنا قوات أخرى، فحوّلوا مسارنا باتجاه طريق فرعي.. وهناك أنزلونا في أرض مستوية، تحيط بها التلال.. وبركلات الجنود، والضرب بأخمص البنادق.. وجدنا أنفسنا وجها لوجه مع المجرم حسين كامل..فقلنا مع أنفسنا: هذه هي نهايتنا.. كان متغطرساً مشمئزاً، وكنا نتقصد التحديق في التراب؛ لكي لا نرى بشاعة وجهه، ولكن بشاعة ألفاظه وعصبيته تجبرنا للنظر إليه، وفي كل لحظة نقول: سيصدر أمره بإطلاق النار علينا، ونعيد التشهد في كل لحظة.. ثم قال ما خلاصته: من منكم مع صدام حسين، ومن منكم مع الحسين ؟! فارتعدنا لهذه المقارنة، وعشرات من فوّهات البنادق مصوبة إلينا، ولم يطل تفكيرنا، حتى نهض شاب في السادسة عشرة من عمره، وقال بصوت جريء ثابت : أنا مع الحسين.. ! فقال له المجرم حسين كامل: اذهب وقف هناك.. ثم ساد صمت رهيب، فاندفع أحد كلابه وناوله بندقية، وهيأها للرمي، فسددها باتجاه الشاب وافرغ فيه كل طلقاتها.. فسقط الشاب مضرجاً بدمائه، ثم عاد والتفت إلينا وأعاد سؤاله ثانية : من منكم مع صدام، ومن منكم مع الحسين؟.. فنهض شاب آخر بعمر الأول تقريبا وقال: أنا مع الحسين..! فقال له المجرم: اذهب وقف هناك.. فذهب الشاب بخطوات ثابتة، ولكن قبل أن يصل أطلق عليه النار ايضاً، وسقط هو الآخر مضرّجاً بدمه.. لقد كان حسين كامل مرعوباً، رغم أنه هو الآمر الناهي، ولم يكرر السؤال؛ كي لا يتفاجأ بأن الجميع يمكن أن يكونوا مع الحسين .." !
*
اضافة التعليق