طارق الحارس.. الشروگي الوسيم الذي درس الألمانية وأقام في أستراليا وتوفي في مدينة الثورة ..!

بغداد- العراق اليوم:

فالح حسون الدراجي

افتتاحية جريدة الحقيقة

رغم أن قلبي مفطور من شدة الحزن والأسى على رحيله، فإني لن أتحدث بلغة الحزن والفجيعة على فراق أعز وأغلى أصحابي، طارق الحارس، فأبو سنان المحب للفرح والمرح والنكتة لا يحب لغة الدمع والأحزان قط.. لذلك قررت اليوم أن انعي رحيله بما يحب ويرغب، وأقصد استذكار علاقتنا الأخوية النبيلة، وبعض مواقفه الودودة البهيجة.

في صيف عام 1997 على ما أتذكر، وبينما كنت أتمشى في العاصمة الأردنية عمان.. أوقفني أحد الشباب العراقيين.. وبعد التحية، قال لي بثقة: أقدم لك نفسي، اسمي طارق الحارس.. وأتمنى أن يكون اسمي قد مرّ عليك من قبل ..!

قلت  له-: أتشرف بك ..

قال: أنا صحفي ولي عدة كتابات في الشأن الرياضي خصوصاً كرة القدم ..

رحبت به، وقلت له: هل تؤمرني بشيء .. أنا بالخدمة؟

  قال: أنا أعرف أنك تعمل في جريدة الزمان، فهل بالإمكان مساعدتي وإيجاد مكان فيها، سواءً بالعمل أو بالنشر ؟

قلت له: أظن أنك تعرف أن جريدة الزمان تأسست منذ فترة قصيرة جداً، وأن الأمور المالية غير واضحة فيها بعد، كما أن صفحتها الرياضية غير مهمة لدى صاحب الصحيفة كما يبدو، والتعيينات صعبة حالياً، خاصة لصحفي رياضي غير معروف  ..

قاطعني وقال ضاحكاً: لكن لديّ ثلاث نقاط تحبها

وأجزم بانك ستساعدني كثيراً لو تعرف هذه النقاط لاسيما وأن علاقتك بمؤسس الجريدة سعد البزاز طيبة كما يقولون..

وقبل أن أجيب عليه، قال: أولاً أنا شروگي ومن أبناء مدينة الثورة، وأنا أعرف كم أنت منحاز لهذه المدينة الكادحة والطيبة.

قاطعته ضاحكاً وأنا أقول: وجهك ياطارق احمراني يلمع، وشكلك أبد مو مال شروگي ولا مال الثورة ..!

فضحك وقال: والعباس آني شروگي، (فرطوسي)، جدي اسمه (بدن)، وجدتي اسمها (حدهن)، وبيتنا بمدينة الثورة قطاع، (22) وكنت العب بفريق المنتظر بالمدينة، واخوانك حتماً يعرفونني ..

ثم أكمل حديثه قائلاً : أما النقطة الثانية، فهي أني أكره صدام حسين وأمقته

جداً، فهو أعدم أخي (طالب) مثلما أعدم أخاك (خيون) وقد تركت العراق قبل شهرين هارباً من جوره وظلمه وطغيانه، ولم أعد أطيق الحياة في ظل نظامه الدموي ..

وقبل أن يكمل النقطة الثالثة، قلت له: إن هذه الميزة ليست استثنائية، فأنت تعرف أن أكثر من تسعين في المائة من أبناء الشعب العراقي يكرهون صدام حسين ويمقتونه. 

لكن طارق الحارس تجاوز ملاحظتي هذه، وأكمل قائلاً: اما النقطة الثالثة، فهي إعجابي بك، ومحبتي الأخوية الصادقة التي لا تضاهيها محبة أخرى .. وقبل أن أعلق على قوله، نظر لي مبتسماً وقال: و (أرجو أن لا تگلي هاي مو ميزة استثنائية لأن تسعين بالمية من أبناء الشعب العراقي يحبوني ) ..!

فضحكت وقلت له: ( لا خويه اطمئن ماراح أگلك).

وأكمل طارق حديثه قائلاً: والله يا أبو حسون ظروفي المادية في عمان صعبة، وعودتي إلى العراق باتت مستحيلة بعد أن قدمت أوراقي إلى مفوضية الأمم المتحدة..لذلك ارجو منك أن تقف معي في موضوع العمل في جريدة الزمان ..

قلت له: إنت شمخلص ؟

فقال مازحاً: والله مخلص جگاير ..!

فضحكنا.. لكنه استدرك قائلاً: آني خريج كلية الآداب / اللغة الألمانية ..

قلت له مطمئناً: يصير خير

 وفي اليوم الثاني اتصلت برئيس التحرير في مقر إقامته في لندن، وحكيت له قصة طارق الحارس، وما دار بيننا، ورجوته ان يمنح فرصة لهذا الشاب الوطني المبدع.. فوافق البزاز على استكتابه في الصفحات الرياضية، بنظام القطعة والمكافأة وليس بنظام التعيين ..

وكان اول موضوع رياضي كتبه طارق الحارس لجريدة الزمان، تحقيق جميل عن منتخبنا الوطني بكرة القدم، الذي كان يزور عمان آنذاك، وقد نال هذا التحقيق الصحفي إعجاب الكثيرين، أولهم كان البزاز وهكذا صار طارق واحداً من أسرة الزمان ..مثلما صار واحداً من مجموعتي الودودة، التي ضمت عدداً من الأصدقاء الأعزاء جداً، والتي كانت أشبه بالأسرة الواحدة .. كما أصبح طارق منذ تلك اللحظة، أعز وأقرب الأصحاب إلى قلبي، حتى صرنا نقضي كل يومنا معاً في عمان، ولا نفترق إلا آخر الليل .. وعندما غادرت عمان مع اسرتي إلى أمريكا في تلك الليلة، كان طارق واحداً من مجموعة الاحبة التي ودعتني عند بوابة المطار، وكان بكاؤه وصراخه خلفي، وأنا أعبر بوابة المغادرة ملفتاً لانتباه الجميع ..

ولم ينقطع حبل التواصل بيني وبين طارق، حتى بعد رحيله مع أسرته إلى أستراليا قبل حوالي ربع قرن، فكنا نتحدث دائماً  عبر الاتصالات التلفونية، أو الفيس بوك، أو في اللقاءات الشخصية كلما تتاح لنا الفرصة.. وكان آخر لقاء بيننا تم قبل حوالي خمس سنوات، عندما صادف وجودنا معاً في العراق، وزارني أبو سنان بمقر جريدة الحقيقة في بغداد .. وحين ودعته عند باب الجريدة، احتضنني، وكان معنا الصديق عباس غيلان، فرأيت دمعة تنزلق على خده.. قلت له وأنا أحاول تلطيف الأجواء : لماذا تبكي يا أبا سنان، وأستراليا لا تبعد سوى شمرة عصا عن بغداد، حيث بامكانك المجيء إلى هنا لتراني كل حين ..

فابتسم طارق وأجابني بـ ( قفشة) وهو المعروف بمثل هذه القفشات قائلاً:

شمرة عصا ها؟ إي خطية مو على أساس أستراليا صايرة بين شارع مريدي وسوگ العورة، مو بآخر قارات الكرة الأرضية ؟!

وكان هذا اللقاء هو آخر لقاء بيني وبين هذا الكائن الخرافي، المدجج بالعشق والجمال والطيبة والنقاء والشجاعة والحب للعراق ولكل الفقراء، ولأصدقائه جميعاً دون استثناء .. أما آخر اتصال بيننا، فكان قبل أسبوعين، عندما قال لي: أنا في العراق الان، بل وفي بيتنا بمدينة الثورة، فمتى ستأتي لأراك يافالح، ( مو روحي طگت عليك والعباس).

قلت له: قريباً (راح أجي) وستراني .. فانتظرني ..!

فقال: طبعاً راح أنتظرك ..!

لكنّ طارق رحل إلى مثواه في مقبرة وادي السلام، ولم ينتظرني .. وهذه أول مرة يواعدني فيها، ويخلف بوعده! ..

الفقيد طارق الحارس

علق هنا