بغداد- العراق اليوم: فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
اتصل بي أحد الأصدقاء، وهو شاعر، ومثقف، له حضور طيب في الساحة الثقافية العراقية.. سألني بدون مقدمات : أيهما برأيك أفضل شعرياً، عريان السيد خلف أم كاظم إسماعيل الگاطع؟. وللحق، فأن السؤال لم يفاجئني، فقد سبق وأن سمعته مرات عديدة بصيغ وأشكال مختلفة، ومن أشخاص مختلفين، لكن الذي فاجأني حقاً، أن السؤال جاء هذه المرة على لسان شاعر، يفترض به بديهياً معرفة قوانين البيئة الشعرية، وإشكالات العثور على إجابة حاسمة لمثل هكذا أسئلة معقدة بل وخطيرة. ولعل ما يصعّب الأمر في إيجاد جواب مناسب لهذا السؤال (الإشكالوي)، أن الشعر لعبة غير محسومة النتائج، فهو ليس مثل كرة القدم، التي يمكن اختيار الأفضل فيها دون صعوبة وذلك من خلال احصاء عدد الألقاب، والكؤوس والبطولات الفردية والجماعية التي حصل عليها، وعدد الأهداف التي سجلها أو صنعها اللاعب خلال الموسم الكروي.. وهذه المقاسات باتت معروفة ولا حاجة لذكرها. أما في (لعبة) الشعر، فالأمر تراه مختلفاً، إذ لا يكون في (الملعب الشعري) سوى الشاعر والمتلقي، او بالاحرى، قصيدة الشاعر، ومزاج المتلقي وذائقته فقط، فلا أرقام، ولا كؤوس ولا أهداف ولا (أسيست)، ولا مقاسات معينة لاختيار الأفضل، أو (الأشعر) !! لكن صديقي المتصل، قطع عليّ التفكير مع نفسي، وكأنه سمع (صوت) أفكاري، فقال لي: إنهم يمنحون جائزة نوبل لأفضل شاعر، وتمنح جائزة الأوسكار لأفضل فيلم، وأفضل ممثل .. فلماذا يستصعب تقدير وتقرير (الأفضل) بالشعر الشعبي، وهو فن يتوفر على معايير للمفاضلة والتقييم حاله حال المعايير الرياضية والشعرية والسينمائية، وغيرها من الميادين؟ قلت له: ليس في الشعر - الفصيح والعامي معاً - شاعر أفضل، ولا حتى ثمة قصيدة فضلى، فالشعر كما أفهمه يفتقد لأدوات (قياس) المفاضلة.. لأنه يعتمد على ذائقة ومزاج وعاطفة ومن ثم استجابة الجمهور له، وهذه كلها خارجة عن شروط القياس هذا من جهة، اما من جهة جوائز نوبل والأوسكار، فهي تخضع كما تعرف لاعتبارات سياسية وغير سياسية.. وقد توافقني الرأي مثلاً في أن الشاعر الهندي (طاغور )، رغم موهبته الكبيرة، ليس (أشعر) من الجواهري، لكنهم منحوه جائزة نوبل، ربما لأنه يكتب بالإنجليزية، وتتفق معي أيضاً في أن الشاعر سان جون بيرس، الذي نال نوبل لم يكن أفضل من (أليوت)، وإن الشاعر الإيطالي أوجينيو مونتالي الفائز بنوبل الشعر لعام ١٩٧٥ ليس أفضل من الشاعر (لوركا)، وإن الشاعرة السويدية (اليهودية) نيلي زاكس التي فازت بجائزة نوبل الشعر لعام ١٩٦٦ ليست أفضل من ادونيس او من سعدي يوسف، أو من محمود درويش، أو نزار قباني، لكنها نالت الجائزة. إذاً، فإن جوائز نوبل في الشعر، لا تمنح للأفضل قطعاً، لأن عالم الشعر، برأيي هو عالم مشتبك العناصر، متداخل الرؤى، لا تسهل معاينة وتحديد هوية الأفضل فيه.. لكن المتلقي يستطيع أن يتلمس و(يرى) الأجمل بمزاجه وذائقته دون دليل. قاطعني صديقي قائلاً: أتفق معك تماما في كل ما تقول لكني أريد منك جواباً تحكيمياً محدداً، تعرض فيه رأيك كشاعر وناقد وصحفي ومتذوق؟ قلت له: أنا لست ناقداً، ولم أجرب النقد يوماً قط، لكني، سأجيب عن سؤالك رغم صعوبته وتعقيده : الراحلان عريان وكاظم شاعران كبيران دون شك، فهما نهران يتدفقان شعراً عذباً وجمالاً وإبداعاً لأكثر من نصف قرن دون توقف وفي نفس الوقت أود أن أشير الى أني لا أتفق مع من يقول ان عريان وكاظم مدرستان شعريتان، لأن المدرسة الوحيدة في الشعر الشعبي العراقي الحديث كما معروف، هي مدرسة الشاعر مظفر النواب، وكل الشعراء الآخرين مروا على هذه المدرسة، وتعلموا في صفوفها، وتخرجوا في مناهجها.. لذلك يمكنني القول ان الشاعرين عريان والگاطع شكلا (خطين) شعريين متميزين، وإن كانا يتشابهان في الكثير من الملامح والتضاريس.. فهما مثلاً من بيئة طبقية واجتماعية وسياسية واحدة، وكلاهما ينهل من ينابيع فكرية صافية.. لكن صديقي كما يبدو، متعجل في الحصول على الجواب القاطع، ولا يرغب بسماع هذه التفرعات والمقدمات التمهيدية، فقال لي مقهقهاً: صديقي العزيز اعطني رأيك رجاءً ؟ قلت له: رأيي، أن كليهما كبيران، لهما الملايين من المحبين والعاشقين في خارطة القصيدة العراقية، وهما عمودان من أعمدة الشعر العراقي، ولا يمكن لي أن أفضل واحداً على الآخر رغم أن ثمة فروقات فنية كثيرة تفصل بينهما.. قاطعني صديقي صارخاً: ها قد وصلنا للزبدة.. أرجو أن تذكر هذه الفروقات ؟ قلت: الفروقات تتمثل في أن قصيدة عريان تزدحم بالشعرية العالية، والقوة، والسبك، والفخامة، وأيضاً بالتراكيب الهندسية التي لا يجيدها إلا من كان مهندساً شعرياً بمستوى ( أبي خلدون)، لذلك تراه يختار بحوراً، وأوزاناً ثقيلة وطويلة، كما يستخدم لغة (عريانية) خاصة، واحياناً قد يبالغ في استخدام (الحسچة) الريفية الجنوبية.. ولا أكشف سراً لو قلت إني أعاني أحياناً في فهم معاني بعض مفردات قصيدته، رغم أني أشتغل في بيئة الشعر الشعبي، وابن ريفية جنوبية، بل ومولود في ريف العمارة!! كما أن شعر عريان يمتاز بقيمه الوطنية العليا وبالمفاخر والمواقف الرجولية.. ولا أغالط الحقيقة لو قلت إن قصيدة عريان تشبه الى حد كبير شخصية عريان، وثقافته، وقيمه الذاتية.. ناهيك من قدرات عريان الباهرة في الإلقاء، فهو يلقي قصيدته وكانه يرتل عليك الشعر ترتيلاً ساحراً، فيهيمن بروعته على المنصة والقاعة والاجواء منذ البيت الأول حتى آخر القصيدة، وهكذا تصطف لديه حلاوة الشعر وحلاوة الإلقاء جنباً الى جنب .. أما كاظم الگاطع، فهو نبتة شعرية (گاطعية) مدهشة، بل ومجنونة.. نبتة لايتوفر مثيلها إلا في بساتين شعر قد تقع خارج كوكب الشعر الشعبي العراقي.. إنه نبتة عجيبة، دائمة الخضرة والعطاء في كل المواسم، تجد فيها السحر والجمال والمتعة وحلاوة المذاق .. تتميز قصيدة كاظم بالغنائية الشفيفة العذبة، خاصة وانه يستخدم لغة مدينية سهلة، ويكتب دائماً في وزن (النايل) الذي يقابله البحر البسيط في الشعر الفصيح.. وهو وزن غنائي موسيقي. كما يمتاز شعر الگاطع بالإدهاش والمفاجأة، وبروعة الصور الشعرية التي تتدفق بتلقائية تترك أثراً في نفوس المتلقين.. وفي شعره طعم خاص يظل مذاقه عالقاً في الوجدان والذاكرة أبداً.. وإذا كان الگاطع يعاني من ضعف الإلقاء لديه، كما معروف، فهو يعوض هذا النقص بغزارة إنتاجه، ومطبوعاته الشعرية التي تحظى دائماً باهتمام وقراءة الجمهور .. واعتقد ان ثقافته العالية، وقراءاته باللغة الانكليزية وفرت له امكانية التطور في بنية قصيدته الفنية، وفي تنوع مضامينها الوجدانية والإنسانية. واعتقد أن سلاح التفوق العلمي الذي يتسلح به كاظم، ويفتقد له عريان، قد خلق فرقاً (حضارياً) واضحاً في شكل قصيدتيهما، وفي مضمونهما أيضاً. وهنا تدخل صديقي قائلاً: وأنت لمن تميل شخصياً؟ قلت: لكاظم اسماعيل الگاطع، وقد يأتي ميلي لقصيدته، (ربما) بسبب فهمنا المشترك لشكل ولغة ووظيفة القصيدة التي نبتغيها.. أو لتقارب امزجتنا وثقافتنا، او لعمق العلاقة الشخصية التي كانت بيننا، رغم حالات المد والجزر التي تحصل فيها أحياناً، علماً بأن علاقتي بدأت بكاظم منذ حوالي ٥٤ عاماً، بينما علاقتي بعريان - التي بدأت عن طريق كاظم اسماعيل - قد بلغت ٤٨ سنة تقريباً. ختاماً أقول.. انا احترم جداً موهبة الشاعر الفذ عريان السيد خلف، لكني شخصياً أحب قصيدة الگاطع أكثر .. وكان أبو خلدون يعرف رأيي هذا ..
الشاعران الكبيران عريان السيد خلف وكاظم الگاطع
*
اضافة التعليق