بغداد- العراق اليوم: قد تكون بعض الأفكار المرتبطة بالفضاء والكون غريبة أو حتى خياليّة لكنّ التطرّق إليها مفيد علميّاً. تسمح الأفكار الغريبة بقياس صحّة فرضيّة أو فتح المجال أمام الخروج بفرضيّات جديدة. وعلى أيّ حال، لا تعني غرابة الأفكار استحالتها بشكل تلقائيّ. يتعامل المدير المؤسّس لمبادة الثقوب السوداء في جامعة هارفارد ومدير معهد النظريّة والحوسبة في مركز هارفارد-سميثسونيان للفيزياء الفلكيّة آفي لوب مع فرضيّة مثيرة: هل يمكن للحضارات الفضائيّة المتقدّمة أن تستخدم الثقوب السوداء لأغراض التسليح؟ ويجيب في موقع "ذا دبريف" فيكتب: الثقوب السوداء هي المصدر النهائيّ للطاقة النظيفة. يمكنها تحويل جزء صغير وازن من الكتلة المتبقّية لأيّ نفايات تُلقى فيها إلى طاقة نقيّة، وذلك بكفاءة أكبر بكثير من الكفاءة الخاصّة بالمفاعلات النوويّة. تشير السياسات الأرضيّة المرتبطة بالطاقة النوويّة إلى احتمال أن تكون الحضارات المتطوّرة تكنولوجيّاً خارج كوكب الأرض قد رغبت على مدى مليارات السنين في تسخير الثقوب السوداء لإنتاج الطاقة السلميّة أو برامج التسليح العسكريّ.
نصف قطر شفارتزشيلد
لحسن الحظ بالنسبة لأولئك الذين يفضّلون السلام بين النجوم، ثمة عقبة عمليّة كبيرة أمام تصنيع الثقوب السوداء تكنولوجيّاً. سنة 1972، صاغ عالم الفيزياء النظريّة كيب ثورن فرضية (أو تخمين) الطوق، مشيراً إلى أن الجسم المنهار لكتلة "أم" يشكّل ثقباً أسود عندما، وفقط عندما، يحيط طوق دائريّ بنصف قطر شفارتزشيلد بالجسم في جميع الاتّجاهات، ممّا يعني ضمناً أنّ الكتلة محصورة داخل مجال شفارتزشيلد. كان الفيزيائيّ الألمانيّ كارل شفارتزشيلد أوّل من اشتقّ حلّ الثقب الأسود لمعادلات ألبرت أينشتاين عن النسبيّة العامة، مع وجود أفق حدث موجود عند هذا الشعاع. يمثّل فضاء شفارتزشيلد الأسوار النهائيّة للسجن حيث لا يمكن للضوء أن يهرب، ممّا يجعل الجزء الداخليّ للثقب يبدو أسود بالنسبة إلى مراقب خارجيّ. بالنسبة إلى كتلة الشمس، يبلغ نصف قطر شفارتزشيلد 3 كيلومترات.
فرضيّة الطوق
تشير فرضية الطوق إلى أنّه في عمليّة صنع ثقب أسود، يجب ضغط المادّة أو الإشعاع إلى كثافة كتلة مساوية بالحدّ الأدنى لكتلة الثقب الأسود مقسومة على حجم فضاء شفارتزشيلد. هذه الكثافة أعلى بعشر مرّات من كثافة نواة ذرّيّة لثقب أسود من كتلة الشمس. باستخدام أجهزتنا التكنولوجيّة الحاليّة، يستحيل ضغط كميات كبيرة من المادة أو الإشعاع إلى هذه الكثافة. لكنّ عتبة الكثافة لصنع ثقب أسود تنخفض عكسيّاً مع تربيع الكتلة وتكون أقلّ من الكثافة النوويّة لثقب الأسود ذي كتلة أكبر ببضع مرات. في الواقع، تدرك الطبيعة هذه الكثافات من خلال انهيار أنوية النجوم الضخمة. تمّ تأكيد ذلك من خلال اكتشاف 90 حدث اندماج للثقوب السوداء حجمها أكبر من كتل شمسيّة قليلة بواسطة مرصد موجات الجاذبيّة ليغو-فيرغو-كارغا. (هو مشروع تعاون بين عدة مراصد يمتدّ على أكثر من قارة). يتمّ تمييز هذا التشكّل أيضاً عن طريق رشقات أشعّة غامّا تنبعث من النفّاثات المتكونة أثناء انهيار النجوم الضخمة إلى ثقوب سوداء على مسافات كونية.
هنا يكمن سبب السلام بين النجوم
الثقوب السوداء ليست قابلة للتسليح لأنّ جعل كثافتها أقل من الكثافة النوويّة بالوسائل التقليديّة يتطلّب كمّية هائلة من الكتلة، أكبر من كتلة الشمس بأضعاف عدّة. إنه مشروع هندسيّ لا يمكن التغلّب عليه لمعالجة مثل هذه الكتلة الكبيرة بالوسائل التكنولوجية. تصل مصادمات الجسيمات إلى كثافات طاقة تفوق كثافة نواة الذرّة ولكن فقط لكمّيّة ضئيلة من الكتلة. ونتيجة لذلك، هي بعيدة كلّ البعد عن تلبية فرضية الطوق. لكن دعونا نفكّر في وصفة أكثر عمليّة، من النوع الموجود في كتب الطبخ. فلنفترض أنّنا نرغب في صنع ثقب أسود عن طريق سكب الماء في منطقة كبيرة بما يكفي. ما هو الحجم الذي يجب أن تكون عليه المنطقة قبل أن يتشكّل الثقب الأسود؟ طوق شفارتزشيلد، في هذه الحالة، هو تقريباً مدار كوكب المرّيخ حول الشمس، وستبلغ كتلة الثقب الأسود كتلة 100 مليون شمس. تتطلّب هذه الوصفة كمّيّة ماء أكبر من كل الكمّيّة الموجودة في مجرّة درب التبانة.
ما يثير الاهتمام
إنّ الثقوب السوداء الهائلة تشكّلت بالفعل في بدايات الكون. لفتَت ورقة بحث جديدة إلى انبعاث الأشعّة السينيّة من ثقب أسود بهذه الضخامة على بعد 500 مليون سنة فقط من الانفجار العظيم. يشير هذا الاكتشاف الجديد إلى أن بذور الثقوب السوداء كانت هائلة في وقت مبكر من الكون. سنة 1994، نشرتُ ورقة بحثية مع فْرَد راسيو تقترح التكوين المبكر للثقوب السوداء الضخمة من انهيار النجوم الفائقة الكتلة والتي تشكّلت على الأرجح من الغاز البكر للهيدروجين والهيليوم المتسرّب من مرحلة الكثافة الساخنة بعد الانفجار العظيم. سنة 2003، أثبتتُ هذا الاقتراح في ورقة مع فولكر بروم، حيث برهنّا أنّ سحب الغاز البدائيّة لملايين الكتل الشمسيّة يمكن أن تنهار مباشرة كي تشكّل بذور ثقوب سوداء إذا تمّ تثبيط تبريد الهيدروجين الجزيئيّ فيها. أصبحت الفكرة شعبيّة في العقود اللاحقة وأطلق عليها قناة "الانهيار المباشر للثقوب السوداء".
لفتة شُكر
بالعودة أكثر إلى الماضي، كان من الممكن أن ينتج الكون المبكر ثقوباً سوداء بدائيّة إذا كانت بعض المناطق على نطاق الأفق الكونيّ المبكر تحتوي على تركّزات كبيرة بما يكفي من الكتلة لتلبية فرضيّة الطوق، على سبيل المثال، كنتيجة لانتقالات طوريّة. انطلاقاً من كلّ ما نعرفه، تصنع الطبيعة ثقوباً سوداء بين بضع وعشرات المليارات من الكتل الشمسيّة. تتألّق هذه المنارات القويّة عبر التاريخ الكوني. نحن مدينون بالشكر لفرضيّة الطوق لمنع الحضارات المتقدّمة من تسليح الثقوب السوداء.
*
اضافة التعليق