بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
يقولون بيروت مريضة، وجهها شاحب، وبطنها خاوية.. فهي تعاني اليوم من مشاكل جمة، سواء في الأوضاع الاقتصادية، أو الإجتماعية، أو الصحية، والنفسية أيضاً.. ولا أشك في ذلك، فحين يتردى الوضع الاقتصادي في بلد ما، فأن ذلك يؤثر على المنظومة الحياتية كلها، وأولها معيشة المواطنين، التي تمثلت لبنانياً في تدني سعر الصرف لأقل مستوياته، حيث أصبح سعر الدولار الأمريكي الواحد يساوي اليوم 95 ألف ليرة، في الوقت الذي كان سعره في منتصف السبعينيات لا يتجاوز ال 2 ليرة لبنانية، ومما يزيد الطين بله كما يقول اللبنانيون، عدم زيادة الرواتب لموظفي القطاع الخاص والدولة، إضافة إلى عدم صرف المدخرات الخاصة بالأفراد لدى المصارف، التي تعاني من عدم توفر السيولة، فضلاً عن اقفال بعض البنوك اللبنانية، واشهار افلاسها، فضاعت أموال وودائع الكثير من المودعين ومنهم مودعون عراقيون. وبطبيعة الحال فأن ذلك التردي قد انعكس سلباً على مجمل الأداء الخدمي اللبناني العام، اذ باتت بيروت تعاني من قلة المياه، وانقطاع الكهرباء، وشحة الأدوية، كما تعاني شوارعها من الاهمال وافتقاد النظافة، وتراكم النفايات وتكدس القمامة فضلاً عن ازدحام الشوارع العامة بالمتسولين، وهي ظاهرة جديدة، إذ كانت مقتصرة على الوافدين من العرب والاجانب ! ورغم كل هذا، فأني استطيع القول وبضرس قاطع إن ما تمر به بيروت اليوم مجرد سحابة صيف سرعان ما تنقشع، وتطلع الشمس باشعتها وانوارها حتماً، فالمدن العظيمة والجميلة مثل بيروت لن تموت أبداً.. ولن تقدر كل ظروف الحياة وقسوتها، ولا مخالب العوز والجوع، ولا إرادات تجار الحروب والسلاح من النيل أو حتى الاقتراب من كبريائها.. أو شطب اسمها الجميل من قيد الحب، فهي مثل أي مدينة عظيمة أخرى، عصية على السقوط، ومنيعة على الموت والاندثار .. وقد تصاب هذه المدن، وتترنح، لكنها لن تسقط قطعاً.. وربما تتعرض لظروف معيشية صعبة، فتجوع، وتهزل وتمرض عاماً او عامين أو أكثر، لكنها لن تموت أبداً.. فثمة مدن تعرضت الى حصارات تاريخية قاسية، وغزوات وحشية كبيرة، وحروب خارجية وداخلية دامية، ومجاعات كالحة، لكنها سرعان ما نهضت كالعنقاءِ من تحت ركام محنتها، لترمي رمادها في وجهِ الموت، وتقف على قدميها بشموخ، لتمارس روعتها، وتواصل حياتها، وجمالها بشكل مذهل .. هكذا تعلمنا من دروس التاريخ.. وإلا، هل ماتت بغداد حين غزاها المغول، أو ما بعد المغول، ونحن نعرف أن كل الغازين كانوا بلا ضمير ولا قيم ولا رحمة؟. وهل اندثرت دمشق، والقاهرة، وعدن، وبرلين وأثينا وروما وستالينغراد ومثيلاتها، رغم كل تلك الحروب، وانهار الدماء، والمآسي، ورغم تعرضها الى عشرات المجاعات، والحصارات، والكوارث ؟
الجواب: قطعاً لا، فالمدن الكبيرة أكبر من الحروب الكبرى.. وأكبر من الطغاة، واعظم من محنة الجوع والظروف، مهما صعبت .. بل على العكس من ذلك، فقد وجدنا هذه المدن قد اصبحت أعظم وأبهى وأحلى مما كانت عليه قبل محنتها وأزماتها القاسية. ولا أعرف من الذي قال " إن المدن كالعطور والخمور، كلّما تعتّقت، كلما ازدادت جمالاً وشباباً". واليوم، وحيث تتعرض (الجميلة) بيروت الى محنة معيشية، وهجمة عدائية داخلية وخارجية، لا تستهدف لقمة عيشها فحسب، إنما تستهدف رأسها، وكيانها كله.. ويبدو أن (المستهدفين) - بكسر الدال- لم يقرؤوا تاريخ المدن جيداً، ولم يطلعوا على تاريخ بيروت نفسه.. لذلك أود أن أذكر عبر هذه السطور ببعض من حضارة لبنان وتاريخ عاصمته بيروت على مر العصور، فحضارة (التيبى) أو ما يسمى (كوبيك تيبى) والتي هي من أقدم الحضارات الإنسانية عمراً، وأقدم الحضارات التى عرفها اللبنانيون عبر تاريخهم، وقد نشأت قبل 10 آلاف عام قبل الميلاد، وعثر على آثار لهم يعود تاريخها الى 10000 عام قبل الميلاد.. حيث اعتبرت تلك الآثار من أقدم التماثيل الموجودة على سطح الأرض. ويعتقد عدد من العلماء والباحثين، أن (كوبيك تيبى) هو المكان الذي استراحت فيه سفينة نوح، التي كانت تبعد نحو 600 كيلومتر عن ذلك المكان.. كما ذكرت كتب التاريخ.. ويقيناً أن هذه الأقدمية الحضارية الضاربة في عمق التاريخ قد انعكست على حياة وثقافة ووعي وجمالية التكوين اللبناني، أرضاً وانساناً ومزاجاً، فطبعت بصماتها المدنية الخاصة على طبيعة المجتمع اللبناني برمته.. وكان من الطبيعي ان تتالق وتسمو صباحات بيروت، وأماسيها ولياليها بروعة الجمال، وبهجة الفرح، ورقي الفن بكل انواعه، وأن تظهر عبر الأجيال اللبنانية شخصيات سياسية وثقافية وتاريخية فذة، لن يسع حتماً هذا المقال المحدود لذكرها .. فمثلاً في الشجاعة والبطولة كان الجنوب اللبناني نموذجاً مضيئاً، فهو البيئة العربية الوحيدة التي كسرت بقوة السلاح أنف المتغطرس الصهيوني وجعلته يغادر أرضاً عربية احتلتها قواته.. ولعل الاروع في الامر، ان هذا النصر صنعه اللبنانيون بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم وعقائدهم، فكانت بندقية الشهيد هادي حسن نصر الله الاسلامية تقاتل الى جانب بندقية الشهيد جورج حاوي زعيم الحزب الشيوعي اللبناني منذ اليوم الاول لانبثاق المقاومة الوطنية اللبنانية، وكان مقاتلو (الحرس الشعبي) الشيوعي يقاتلون في صف مجاهدي حزب الله وحركة امل في الجنوب اللبناني منذ اليوم الاول لانطلاق المقاومة اللبنانية الباسلة حتى خروج المحتل الصهيوني وانسحابه مهزوماً .. وطبعاً فقد ضم الحرس الشعبي الشيوعي مقاتلين مسيحيين ودروزاً وسنة وشيعة وغير ذلك.. وفي لبنان حيث الشعر والموسيقى والغناء والثقافة والعلوم الدينية، والابداعات الجمالية والتي يعجز المرء عن حصرها بمقال، إذ لا يمكن لي التوقف قط إن شرعت بذكرها هنا، فالساحات مزدحمة بالأسماء الفذة والانجازات الشاهقة .. ويكفي ان تكون فيروز واحدة من انجازات لبنان وجماليات بيروت الساحرة والمذهلة. فهل تموت مدينة تغرد فيروز عند شبابيك بيوتها كل صباح؟!
*
اضافة التعليق