ناهدة الرماح.. اشتباك سياسي على مسرح حياة حافلة

بغداد- العراق اليوم:

قبل فترة قصيرة غادرت إلى بغداد نجمة المسرح والسينما في العراق ناهدة الرماح المقيمة في لندن منذ أواسط التسعينات من القرن العشرين يحدوها الشوق إلى عاصمة الرشيد، لكن القدر شاء لتلك الرحلة أن تكون الأخيرة.

وحين فقدت بصرها على خشبة المسرح اكتسبت الفنانة ناهدة الرماح التي رحلت عن عالمنا الأربعاء سمعة استثنائية، كانت موهبتها في التمثيل قد مهدت لها وكرستها بكدح ونضال واجتهاد.

حدث ذلك عام 1976، فيما كانت الرماح تؤدي دورها في مسرحية “القربان” المستلهمة من رواية غائب طعمة فرمان، وكان حدثا ملهما أن تغادر الحياة المسرحية على الخشبة نفسها التي انطلقت منها مسرحيا عام 1957، محاطة برفاق رحلتها في فرقة “المسرح الفني الحديث”.

    السياسة كانت طريق الراحلة ناهدة الرماح إلى التعبير الفني، وكان الفن وسيلتها للتعبير عن آرائها السياسية

إذا ما كانت ناهدة الرماح قد بدأت حياتها الفنية سنة 1956 بالتمثيل في فيلم “مَن المسؤول” من إخراج عبدالجبار ولي، واعتبرت يومها أول فتاة عراقية تلتحق بالتمثيل، فإن صلتها بالمسرح ظلت هي الأقوى والأكثر جذبا للجمهور، بالرغم من أنها ظهرت في مراحل مختلفة من حياتها في أعمال سينمائية عديدة، لعل من أبرزها فيلم “الظامئون” المقتبس عـن رواية عبدالـرزاق المطلـبي الـذي أخرجـه محـمد شكـري جـميـل.

كان الوقوف على خشبة مسرح بغداد يوميا هو شغف حياتها الحقيقي، لذلك أحبها الجمهور ممثلة مسرحية، وهو ما أطلق موهبتها في عدد من المسرحيات التي صارت جزءًا من الأعمال الخالدة في سيرة المسرح العراقي.

وبعد مسرحيتها الأولى “الرجل الذي تزوج امرأة خرساء” من إخراج سامي عبدالحميد، تتالت أدوارها الرئيسة في “النخلة والجيران” و”بغداد الأزل بين الجد والهزل” و”مسألة شرف” و”عقدة حمار” و”آني أمك يا شاكر” و”الخرابة” و”المفتاح” و”الصوت الإنساني” و”الخال فانيا” و”حكاية الرجل الذي صار كلبا” وسواها من الأعمال المسرحية التي هيأتها للوقوف إلى جانب الممثلة التي سبقتها إلى التمثيل زينب (فخرية عبدالكريم) باعتبارهما علامتين نسويتين بارزتين في المسرح العراقي.

 

اشتبكت حياة الفنانة ناهدة الرماح المولودة في بغداد عام 1938 بالسياسة، بطريقة يمكن تلخيصها بالقول إن السياسة كانت طريقها إلى التعبير الفني وكان الفن وسيلتها للتعبير عن آرائها السياسية، وهو ما دفعها إلى الانتماء في وقت مبكر من حياتها إلى فرقة “المسرح الفني الحديث” التي كانت تمثل تجمعا يساريا، سعى العاملون فيه إلى الدفاع عن القيم الإنسانية والإعلاء من شأنها من خلال فن المسرح.

عملها في السياسة الحزبية عرّضها للفصل من وظيفتها عام 1963 وكانت تعمل في أحد المصارف، وفي عام 1968 استعادت عملها الوظيفي مع مَن أعيد إلى الخدمة من المفصولين السياسيين، وحين فقدت بصرها ذهبت للندن للعلاج هناك، غير أن تأزم الوضع السياسي في العراق عام 1979 فتح أمامها أبواب مناف تعددت جهاتها، وصولا إلى لندن التي غادرت العيش فيها.

لم تنقطع صلة ناهدة الرماح بالمسرح بعد فقدانها البصر، كانت الفنانة التي عُرفت بثقافتها الفنية الراقية والملتزمة حريصة على أن تقدم المحاضرات وتساهم بمداخلاتها في الندوات المتخصصة، غير أن خطوتها الجريئة تمثلت في العودة إلى المسرح مباشرة من خلال إخراج عدد من المسرحيات التي قدمها الطلبة العراقيون في لندن، ومنها مسرحيتا “الصمود” و”الدراويش يبحثون عن الحقيقة”.

عام 2007، وبعد حوالي ثلاثين سنة من حياة النفي عادت الرماح إلى بغداد زائرة، لتجد أن هناك من هيأ لها مفاجأة حياتها.

ولم تكن تلك المفاجأة سوى دورها في الحياة الذي أدته على خشبة المسرح في مسرحية “صورة وصوت” من إخراج سامي قفطان، عادت الرماح يومها إلى المسرح ممثلة وإن بشكل مؤقت، وبما يشبه الذكرى، لقد صممت تلك المسرحية التي قدمت ضمن الاحتفال بيوم المسرح العالمي، كما لو أنها كانت وصية الرماح إلى المسرحيين العراقيين الذين دمعت عيونهم وهم يرون فنانتهم الرائدة تقاوم العمى بنور الفن.

برحيل الفنانة ناهدة الرماح يفقد العراق وجها آخر من الوجوه التي تذكّر بحداثته التي صارت مجرد ذكرى.

علق هنا