بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
في صيف عام ١٩٥٩، تجمع عدد من الأقارب والأصدقاء والجيران من أهالي ناحية كميت في محافظة ميسان لتوديعنا، وهم يحيطون بالباص الذي سينقلنا الى بغداد، بعد أن قرر والدي الرحيل عن هذه المدينة الطيبة، والعيش في العاصمة، بسبب الظروف المعيشية القاسية التي كنا نعيشها. وقبل أن ينطلق بنا ذلك الباص الخشبي الى بغداد، وقف عودة الخلف، وهو يمسك بيد والدي قائلاً: شو چنك خايف يبو خيون؟ فقال له والدي: أي والله خايف يبو چاسبية، بغداد تخوف.. وآنه ما عندي ظهر غاد، ولا عندي أحد ! فنهره عوده، قائلاً: أفه يحسون.. تخاف وعندك اولاد اسباع؟ العنده اولاد ما يخاف من بغداد.. وانت عندك خيون وفالح زلم يفلشون حتى (اليبل) -ويقصد الجبل-! ثم تحرك بنا الباص وسط بكاء وعويل بعض النسوة، ونحيب والدتي التي لم ينقطع دمعها طول الطريق، إذ كيف لا تبكي وهي التي ولدت وعاشت في كميت، ولا تعرف ماذا يخبئ لها القدر في ديرة (الغربة)! كان الباص يمشي بسرعة، مستغلاً (برد الوكت)، وكنت أنظر لوجه والدي الممتلئ بالقلق والحيرة، وأتذكر في الوقت ذاته كلمات عودة الخلف التي تسللت الى أعماقي، واستقرت في وجداني .. وقتها لم أكن أعرف أن شقيقي خيون قد انتشى وطرب لها مثلي، إلا عندما توقفنا أمام أحد المطاعم في ناحية الشيخ سعد، حين همس في أذني متفاخراً: سمعت عمي عودة من گال: خيون وفالح يفلشون يبل ؟! فاومأت برأسي مؤيداً ..! واليوم إذ أذكر هذه الحكاية، إنما أذكرها لأقول، إن كلمات عودة الخلف تلك، باتت في سنوات حياتنا اللاحقة، نبراساً يضيء طريقنا أنا وشقيقي، بل صارت دافعاً معنوياً نتسلح به لمواجهة الصعاب وتحدي الظروف ، إذ ما أن نقترب يوماً من حافة الاحباط واليأس في معركة الحياة، حتى يحضر هذا (الكارت) المعنوي أمامنا، لنستخدمه، ونجدد به طاقتنا وقدراتنا الناضبة فيصبح المستحيل بعد ذلك، أمراً لا مستحيل فيه. لقد فعلت كلمات عودة الخلف فينا فعل السحر، وأثرت في مستقبلنا كثيراً، فقد قاتلنا أنا وخيون قتالاً حقيقياً من أجل ترجمة رأيه ذاك الى فعل وعمل استثنائيين .. وكان من نتائج ذلك، أن اجتهد وغامر أخي خيون، مقتحماً بجرأته وجسارته صناعة المواد العازلة، وهو الذي لا يملك ناقة فيها ولا جمل، فامتلك بجهده، معملاً للماستك والفلينكوت والأصباغ، ونجح فيها نجاحاً طيباً، فكان مفخرة لنا جميعاً .. أما أنا، فقد كان طموحي (اكبر من البحر وأبعد من السما) كما تقول فيروز .. لا يحده حد، ولا يوقفه سد .. وقد بدأت ملامح هذا الطموح تتأسس، مذ كنت طالباً بالصف الرابع في مدرسة كميت، حين سألنا الاستاذ كاظم واحداً واحداً عن احلامنا في المستقبل، فقال الطالب الذي يسبقني: حلمي أن أصير طياراً ! فضحك المعلم وقال له: بابا انت أول مرة شايف طيارة، حتى تصير طيار ؟! ثم سألني عن مستقبلي، فقلت له (صحفي استاذ)! فنظر استاذ كاظم لي، ثم قال: ربما تصير ! في بغداد لم أمض في البدء الى الصحافة، إنما الى الكرة، فلعبت الى أحد أفضل الأندية الكروية في العراق - نادي السكك - الذي حمل اسم نادي الزوراء لاحقاً، ورغم علو امكانياتي الفنية الكروية، وتوقعات مدربي وزملائي لي بمستقبل لامع في لعبة كرة القدم، إلا أن قلبي كان مثل آلة العود (مدوزن) على الصحافة وليس على غيرها، فغادرت الكرة.. كما غادرت وظيفتي في النفط، وبعد ذلك رفضت وظائف ومناصب عديدة عرضت عليّ بعد سقوط النظام.. لكونها بعيدة عن طريق عشقي -الصحافة-. وقد كانت تجربتي الصحفية الأولى في طريق الشعب، عندما عملت فيها بصفة متدرب عام ١٩٧٣. ويجدر بي القول هنا، إني كتبت بعد ذلك أعمدة ومقالات في صحف عديدة، كان اصحابها يمنحوني تميزاً نبيلاً مثل نبل وكرم نفوسهم، لكن رغبتي في اصدار جريدة تترجم أفكاري، وتعبر عن رأيي، ظلت متوهجة، لم تخمد جمرتها قط، حتى جاء عام ٢٠١٠ حين أدركت أن العمر يقترب من ربعه الأخير، وأصبح تنفيذ مشروعي الصحفي أمراً لا يقبل التمديد، ولا التأجيل.. ولكن كيف لي أن أحقق هذا المشروع الباهض، وأنا لا أملك غير ثقتي بتجربتي، وحبي لهذه المهنة الحرة المحترمة؟ وهنا حضرت تلك الكلمات الباهرة التي اطلقها عودة الخلف قبل نصف قرن: (عندك ولد يفلشون يبل)! إذاً، حان الوقت ( لأفلش ) جبل المستحيل، واقول لعودة الخلف: صدقت.. فها أنذا أفعل ما وعدت به والدي قبل نصف قرن. لم أنتظر أكثر، فجمعت بعضاً من زملائي، وأغلى أصحابي، وناقشت معهم المشروع، وكان القرار: أن نصدر جريدة الحقيقة ! ومن لاشيء -مادياً - انطلقنا، وأصدرنا جريدة يومية وطنية تقدمية، منحازة للناس، ومنتمية للحقيقة فقط لا غير .. ولأن زوجتي تعرف منذ أن عرفتني، أن اصدار جريدة خاصة بي هو حلمي وطموحي، فجاءت تحمل مصوغاتها الذهبية، قائلة: هذه مصوغاتي، خذها، وبعها، وحقق حلمك، فما نفع الذهب إن لم ينفعك في مثل هذا اليوم.. شكرتها، وبعنا معاً كل المصوغات الذهبية، كما استلفت مبالغ من بعض الاصدقاء الاوفياء، وهكذا اصدرنا (الحقيقة)، بعد أن استأجرنا مقراً لها في شارع فلسطين.. واليوم وبعد ثلاثة عشر عاماً من الإصدار اليومي المتواصل، استطيع القول: إننا نجحنا في تحقيق الهدف الذي عشنا من أجله، دون أن ننحرف عن منهجنا وخطنا الوطني التقدمي.. ولعل اعظم ما تحقق لنا، أن جريدة الحقيقة بقيت عنواناً للحقيقة، وناطقاً باسم الناس الكادحين.
*
اضافة التعليق