حسن حريب.. شيوعي على طريقته الخاصة.. اقتحم اجتماعاً لمنظمة البعث و(عزّل) الاجتماع لوحده!

بغداد- العراق اليوم:

فالح حسون الدراجي

افتتاحية جريدة الحقيقة

التقيت بحسن حريب أول مرة في منتصف سبعينيات القرن الماضي، في تلك البيئة الرياضية التقدمية، التي كانت معروفة في مدينة الثورة خصوصاً في منطقة الداخل ونهاية التبليط، حيث كان يتواجد في أنشطتها وتجمعاتها عدد كبير من الرياضيين اليساريين المعروفين..  

لكن علاقتي الوثيقة بدأت معه بعد اعدام النجم الدولي بشار رشيد، حيث كان حسن صديقاً للشهيد بشار، ولاعباً في فريقه الشعبي (زمالك الثورة)، فضلاً عن أن شقيق حسن الكبير عبد الحسين حريب (أبو ايمان) كان متزوجاً من شقيقة الشهيد بشار.. ومنذ نهاية السبعينيات حتى مغادرتي العراق لم تنقطع علاقتي به، ولا بتلك البيئة الودودة التي كنت ولم أزل أحبها جداً.

إذن، دعوني أحكي لكم عن حسن حريب ( أبو ضياء )، ومواقفه الجسورة، التي كان مجرد التفكير بها يعد ضرباً من الخيال، وشطحاً من شطحات الجنون، في ظل نظام يحاسب على نوع الحلم الذي يحلم به المواطن، وليس على فعله فحسب !

وهنا أود أن اعترف بأن لحسن حريب - فضلاً - علينا نحن أصحابه، وله الفضل أيضاً على الكثير من الناس في مناطقنا المقموعة، والمرعوبة من بطش النظام الصدامي، ومن قسوة أزلام السلطة البعثية آنذاك.. وباختصار، كان حسن يحضر بأفعاله ومواقفه الشجاعة ضد بيئة النظام، كلما أدركنا الخوف، وهزت السلطة قناعاتنا بأنفسنا، فتجد حسن حاضراً كالرافعة لحمل معنوياتنا المتدنية، والنهوض بها عالياً، وكأن الرجل يكمن في دواخلنا، ويقرأ مقياس معنوياتنا، وإلّا كيف يحضر في تمام الوقت المناسب، لينتشلنا من خوفنا، بضربة يوجهها لجهاز السلطة ومحتوى حزبها الفاشي!

وكنت اسأل نفسي كثيراً عن الدوافع التي تجعل فتى أنيقاً، محباً للحياة، عاشقاً للجمال، لاعباً موهوباً، له محبون كثيرون جداً.. أقول كيف يقوم شخص يتوفر على كل هذا الحب للحياة، بأعمال تقترب من الانتحار وهو يعلم جيداً أنها تؤدي به الى المشنقة؟

وكنت أجيب على سؤالي: أن حسن بطل، وللبطولة والأبطال مزايا استثنائية لا تتوفر في أي شخص غير استثنائي.. 

وإذا كان لكل إنسان طينة يجبل منها،كما يقولون، فإن حسن جبل من طينة  ثورية خاصة، أصحابها لا يعرفون التراجع، ولا يشعرون بالخوف أبداً ..

وإذا كان (أبو ضياء) لعب دوراً في رفع معنوياتنا كما ذكرت، فأنه لعب أيضاً دوراً آخر في تمريغ صورة البعث في وحل السخرية، وفي إسقاط (شمخرة) البعثيين في عيون الناس البسطاء، خصوصاً الذين كانوا يظنون أن البعثيين سلطة خرافية لا تقهر، واذا بهذا الفتى الأسمر (يبهذل) هذه السلطة ويمسح بها الأرض، ويجعل البعثيين أضحوكة في قطاعات مدينة الثورة.

ولعل الموقف الذي أذكره هنا، شاهد على جسارة حسن حريب، الذي كان يسكن في قطاع 12، وحيث كانت ثمة مدرسة تجتمع فيها منظمة حزب البعث اسبوعياً، وقد كان هذا الامر يثير حنق حسن وغضبه. وفي أحد الأيام، كانت هذه المنظمة مجتمعة في المدرسة، خطر في بال حسن أن يطرد هذه المنظمة بكل ما فيها من (رفاق) ومسؤولين وسلطة واسلحة، دون أن يفكر بخطورة النتائج.. فضرب (نص عرگ)ودخل عليهم في اجتماعهم وهو يرفع مسدسه على طريقة رجال الكابوي، صارخاً بهم (اسمعوا جميعاً، اجتماع بالمدرسة ماكو، هاي مدرسة مال تعليم مو مال اجتماعات فاشية.. شوفوا غير مكان تجتمعون بيه .. هذا آخر إنذار الكم.. يلله هسه اطلعوا بره .. بره )!

وطبعاً فإن الامر لم يعجب المجتمعين، وحدثت (عركة) بينهم، أطلق فيها حسن عدة طلقات من مسدسه فوقهم، وانتهى الامر باعتقاله من قبل مديرية الاستخبارات العسكرية ، ولأن حسن عريف مطوع، ويلعب في فريق الجيش، ولأنه كان مخموراً لحظة ارتكاب الفعل، اعتبروا الأمر قد حدث بسبب (السكر)، واكتفوا بتوقيفه ثلاثة أشهر في زنزانة انفرادية، مع حفلات تعذيب يومية تقريباً.. وعند خروجه من المعتقل ذهبنا اليه أنا والاصدقاء محمد مؤنس وعلي مانع وحسين مخرب، وقد كان أثر الضرب والتعذيب واضحاً على جميع أجزاء جسده. وبعد شهر واحد لا أكثر مرّ حسن من باب المدرسة ذاتها، فوجد (الرفاق) يتوافدون على المدرسة للإجتماع أيضاً، فما كان منه إلا أن يعود الى بيته القريب من المدرسة، ويضرب (نص العرگ) بسرعة، ويحمل مسدسه، ويقتحم عليهم اجتماعهم صارخاً بهم: (ولكم هي هتلية، آني مو گلتلكم، ماكو اجتماعات بالمدرسة بعد، شو هم رجعتوا مرة ثانية ) !

ثم راح يضرب فيهم ، مما دفع بعضهم الى حمل دفاتره والهرب مسرعاً، بينما راح حسن يطلق النار فوق رؤوسهم ..ليغلق بعد ذلك باب الاجتماع بيديه .. لقد كان مشهد البعثيين وهم يغادرون الاجتماع هاربين أمام حسن يعد من أحلى المشاهد التي أسعدت الكثيرين من ابناء قطاع 12، بل وقطاعات المدينة الأخرى أيضاً.. وطبعا، فقد اعتقل حسن في اليوم ذاته، وتعرض للتعذيب الفظيع، ثم قضى خمس سنوات في السجن، وخرج بعدها بقرار عفو عام ..!

لم يركع حسن ولم يخضع بعد مغادرته السجن، فقد كان يحتفل بعيد ميلاد الحزب الشيوعي، وكان يتعمد تقديم ( الچكليت) للبعثيين دون غيرهم، لاستفزازهم، أما في ليلة 31 آذار - أي ليلة ميلاد الحزب الشيوعي -فكان يصعد على سطح داره ويهتف أمام البعثيين، بحياة الحزب، ويطلق عدداً من العيارات النارية ثم ينزل بزهوٍ، وشموخ !

بالمناسبة، لم يكن حسن دعياً ولا متشدقاً، بل كان يكره الإدعاء والتشدق بالشيوعية أو الوطنية، لكن الرجل يفعلها (حرشة) بالبعثيين، وسعياً الى إذلالهم، انتقاماً لضحايا سلطتهم الجائرة.

وفي السياق ذاته، أذكر أن حسن كان يطلق صوته عالياً أمام البعثيين، كلما نسي شيئاً معيناً، أو تعثرت قدمه بعاثر أو تعصب لأمر ما، صارخاً:(خرب عفلق)!

وكان البعثيون يغلقون آذانهم كأنهم لم يسمعوا .

ختاماً، كم كان بودي أن أحدثكم عن الكثير من المواقف الاستثنائية لصديقي حسن حريب، سواء تلك المواجهة الشجاعة مع المجرم سمير الشيخلي عضو القيادة القطرية لحزب البعث، والذي كان مسؤولاً عن تنظيمات البعث في مدينة الثورة آنذاك، وكيف صدمه حسن حين قال له في مقر الشعبة الحزبية: انتم البعثيون فاشست!

أو أن احدثكم عن الليلة التي جاءني فيها حسن الى البيت طالباً مني أن (نفعل شيئاً) ثورياً ضد السلطة البعثية، انتقاماً لاعدام شقيقي خيون، بعد انتشار خبر اعدامه بين الاصدقاء.. وأن أشرح لكم كم عانيت في سبيل اقناعه بعدم جدوى الانتقام الفردي.. والعدول عن الفكرة لخطورتها .. كما تمنيت أن احدثكم عن مواقفه التي لا تعد ولا تحصى، لكن ليس في اليد حيلة، فمساحة المقال محدودة، ولا مجال لتجاوزها .. لكني أستطيع هنا أن أشكر تلك الأقدار الرحيمة التي أفلتت عنق صديقي حسن حريب من مقصلة (صدام) أكثر من مرة، بحيث يستطيع اليوم أن يمسك جريدة الحقيقة ويقرأ هذا المقال، وهو في بيته، وليس في قبره .. 

 فتحيةً لصديقي حسن، الشيوعي الذي حقق (شيوعيته) بطريقته الخاصة جداً، وفي ظروف خاصة جداً.

حسن حريب الآن

علق هنا