تحظى قضية تحييد العراق واستقلاليته عن الصراعات والمحاور الاقليمية والدولية بأهمية كبيرة مثلما تحظى بالاهمية بالنسبة لأية دولة مستقلة، لكنها مع ذلك لم تتحقق منذ العهد الملكي وحتى الآن!. وفي ظل الصراعات والتجاذبات الاقليمية والدولية القائمة والتي أضاف اليها احتدام الصراع واشتداده بين ايران والولايات المتحدة بعد تسنم رونالد ترامب رئاستها، بعداً آخر زاد من وتيرة استعارها، فإن تحقيق تحييد العراق وإبعاده عن تلك الصراعات - خاصة وان التوقعات تشير الى ان العراق يمكن ان يكون أحد ساحاتها الرئيسية - يصبح هدفاً وطنياً راهناً، لأن مصلحة العراق وشعبه بمختلف مكوناته تكمن بأن لا يكون طرفاً في الصراع الاميركي الايراني المحتدم والمتوقع استمراره وتصاعده الى حافة الحرب، ربما. ولعل الأمر اللافت، والمؤسف ايضاً، ان أياً من مراكز ومعاهد البحوث والدراسات سواء في الجامعات العراقية او خارجها لم تقدم – على الصعيد العام – الرؤى والأفكار والدراسات التي تشير الى طبيعة المصالح الوطنية الكبرى التي يمكن ان تمكن العراق من تحقيق تحييده وإبعاده عن تلك الصراعات وتعبيراتها وآثارها وانعكاساتها السلبية على أمنه واستقراره الهشّين أساساً. السلطة التنفيذية، ممثلة برئيس مجلس الوزراء الدكتور حيدر العبادي عبرت مؤخراً – واكثر من مرة – عن رؤيتها وتصورها لأهمية وضرورة تحييد العراق عن الصراعات الاقليمية والدولية ومخاطر زجه في أتونها، ولقد جاء تعبير العبادي عن رؤيته هذه لتحييد العراق، في المرة الاولى بتأكيده الواضح والصريح على: أننا لسنا جزءاً من أي معركة خارج العراق وان ما يهمنا هو تحرير الارض وتخليص الشعب من ظلم داعش وبطشه وإجرامه. ان التعبير عن هذه الرؤية – الموقف إنما جاء في أعقاب اطلاق بعض السياسيين في العراق وآخرين لبنانيين وسوريين تصريحات تدعو لمشاركة العراق في المعركة ضد داعش في سوريا حيث اطلق بعض المتحمسين لهذا الموقف شعار (قادمون يا سوريا.. قادمون يا يمن) بينما اعلن آخرون (اننا سنقاتل داعش في سوريا)!. وانطلاقاً من تلك الرؤية وبناء عليها عبر الدكتور العبادي ايضاً وبوضوح اكبر عن اهمية وضرورة تحييد العراق واستقلاليته عن الصراعات الاقليمية والدولية بعد احتدام وتصاعد الصراع والتوتر بين الولايات المتحدة وايران الذي عبرت عنه حرب التصريحات والمواقف المتشددة لكل منهما إزاء الآخر. ففي المكالمة الهاتفية الثانية بين رئيس الوزراء حيدر العبادي والرئيس الأميركي ترامب والتي جرى خلالها التطرق الى توتر العلاقات الايرانية الأميركية والتي أشار المكتب الاعلامي لرئيس الوزراء الى ان الدكتور العبادي قد أكد خلالها (بأن العراق لا يريد ان يكون طرفاً في اي صراع اقليمي او دولي يؤدي الى كوارث وان العراق حريص على مصالحه الوطنية ومصالح شعبه). وقد اكد العبادي نفسه هذا الموقف في المؤتمر الصحفي الاسبوعي الذي عقده بعد يومين من تلك المكالمة الهاتفية مع ترامب. من هنا يبدو واضحاً أن اصرار الدكتور العبادي على تحييد العراق والتعبير عن إدراكه لضرورة استقلاله وإبعاده عن الصراعات الإقليمية والدولية، إنما يعبر عن حكمة وبعد نظر نحتاج اليهما دائماً، لكن بشكل خاص في الظروف الخطيرة والحرجة التي يمر بها العراق الآن ومواجهة استحقاقات ما بعد تحرير الموصل وجميع الأراضي المحتلة من داعش، وكذلك مواجهة استحقاقات تفاقم واحتدام الصراع بين إيران واميركا والذي قد يدفع بعض الدول الاقليمية الى الوصول به كأطراف منحازة الى هذا الجانب او ذاك، بينما يتطلب ذلك ان يبعد العراق نفسه من الانحياز الى هذا الطرف او ذاك، بل يمكن ان يدخل كطرف وسيط بين حليفيه او صديقيه المتصارعين حيث يحظى باحترام طهران وواشنطن دون ان يكون طرفاً في الصراع بينهما. ان الحكمة في تحييد العراق عن تلك الصراعات هي عين الصواب، ولا شك ان السعي العملي للعراق لتحقيق ذلك واقناع معارضيه في الداخل وكذلك كل من طهران وواشنطن يرجع الى تفهم رغبة العراق القوية في تحييد نفسه لمصلحته ومصلحة الآخرين في الوقت ذاته.