رحيل الرجل الغامض الذي قاد مصر بعد سقوط مبارك، والمحارب الذي قاتل اسرائيل أربع مرات '

بغداد- العراق اليوم:

لم يكن يدرك ذلك الصبي ذو البشرة السمراء والأصول النوبية في صعيد مصر، محمد حسين طنطاوي، حين التحق بالكلية العسكرية في خمسينيات القرن الماضي، أن رحلة حياته في الجيش المصري ستقوده يوماً ما ليكون قائداً عاماً له، ووزيراً للدفاع لمدة 20 عاماً، كانت الأطول بين سابقيه، قبل أن تضعه الأقدار في أعقاب إطاحة نظام الرئيس الراحل حسني مبارك عام 2011، مكلفاً بإدارة شؤون البلاد لعام وبضعة أشهر في توقيت وصف بـ"الأصعب في تاريخ مصر الحديث".

وبمقدار المحطات التي مرت بها حياة المشير حسين طنطاوي، الذي توفي اليوم الثلاثاء عن عمر ناهز الـ85 سنة، كان للعسكري الأسمر النحيل دور بارز في الحياة العسكرية والسياسية المصرية، إذ شارك في كل الحروب التي شهدتها البلاد طوال القرن الماضي، وكان له دور بارز في أحداث يناير (كانون الثاني) 2011، إذ على الرغم من قربه من الرئيس الراحل حسني مبارك طوال فترة حكم الأخير، فإنه رضخ للضغط الشعبي وقدم الأخير وأركان حكمه إلى المحاكمة بتهمة التحريض على قتل مئات المتظاهرين المناوئين له خلال الثورة ضده، كما كان يُنظر له دوماً مرشحاً محتملاً للرئاسة، لكن تقدمه في السن والحديث عن اعتلال صحته حالا دون ذلك. فماذا نعرف عن حياة المشير طنطاوي الذي يعتبره الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي "الأب والمعلم والقائد" بالنسبة إليه، وفقما نعاه؟

نشأته وحياته العسكرية

ولد طنطاوي ذو الأصول النوبية في محافظة أسوان (جنوب) في 31 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1935، والتحق بالكلية الحربية في خمسينيات القرن الماضي، ليشارك بعد تخرجه على الفور في عام 1956 في صد "العدوان الثلاثي" عن مصر، وهي تلك الحرب التي شنتها في ذلك التوقيت كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل.

ومع استكمال طنطاوي دراسته الحربية والتحاقه بكلية القادة والأركان، تدرج سريعاً العسكري النوبي في المناصب بالجيش المصري، بداية من قائد الكتيبة 16، ثم قائد اللواء 16 ميكانيكا، مروراً بقائد الفرقة 18 مشاة ميكانيكا، ثم قائد فرع التخطيط، ثم رئيس فرع العمليات، حتى تولى قيادة المشاة، ومنها إلى فرع العمليات بهيئة عمليات القوات المسلحة.

وفي سبعينيات القرن الماضي، تخللت المواقع العسكرية التي تولاها طنطاوي في الجيش المصري مناصب أخرى خارج البلاد، حين عمل في عام 1975 ملحقاً عسكرياً لمصر في باكستان ثم في أفغانستان.

لكن وبعد انتقاله إلى فرع العمليات بهيئة عمليات القوات المسلحة المصرية، استمر تدرج طنطاوي في المناصب القيادية بالجيش، إذ ترأس أركان الجيش الثاني الميداني ثم قائد الجيش الثاني الميداني ومنه إلى قائد الحرس الجمهوري، وهو المنصب الأخير الذي تولاه قبل أن يتم اختياره عام 1991 وزيراً للدفاع ليكون رقم 15 في تاريخ مصر منذ ثورة يوليو (تموز) 1952، التي قام بها مجموعة من الضباط سموا أنفسهم بـ"الأحرار" ضد الملكية في ذلك الوقت.

رغم قربه من الرئيس الراحل حسني مبارك طوال فترة حكمه رضخ طنطاوي للضغط الشعبي وقدمه وأركان حكمه إلى المحاكمة بعد أحداث يناير (أ ف ب)

وقبل توليه وزارة الدفاع، كان طنطاوي قد اقترب من المنصب والرئيس شخصياً بعدما تولى قيادة الحرس الجمهوري عام 1988، إذ أصبح الأخير مسؤولاً عن تأمين شخص ومسكن رئيس الجمهورية، وبحسب رواية مصطفى الفقي، الدبلوماسي المصري، وسكرتير المعلومات السابق لمبارك، فإن "طنطاوي لم يكن سعيداً بالمنصب الجديد ولاحظنا أنه لواء متجهّم لا يضحك. فقد ترك قيادة جيش به آلاف الأفراد واعتقد أن الحرس الجمهوري هو وظيفة مراسمية".

وكان طنطاوي، قائد القوات البريّة وهي الأكبر بين أفرع الجيش المصري، ويبلغ عدد جنودها النظاميين 340 ألف جندي، بالإضافة إلى 375 ألف احتياط، وتعد من أكبر القوات البرية في أفريقيا والشرق الأوسط، وتعتمد في تسليحها على معدات غربية وشرقية، بالإضافة إلى صناعات مصرية من الذخائر والأسلحة.

وأضاف الفقي، "مرت بضع سنوات على طنطاوي في منصبه الجديد، قبل أن يغادر القصر إلى رئاسة هيئة عمليات القوات المسلحة، فيما كانت التوقعات، حسب الفقي، أنه سيصبح بعدها رئيساً للأركان، ومنها وزيراً للدفاع؛ إلا أنه قفز بعد شهور قليلة من رئاسة هيئة العمليات إلى منصب وزير الدفاع مباشرة، إذ اختاره مبارك في 20 مايو (أيار) 1991 ليصبح على رأس القوات المسلحة، في وقت كان مبارك يبدأ فيه عقده الثاني في الحكم.

وبقي طنطاوي الذي رقي إلى رتبة المشير في عام 1993، في منصبه قائداً عاماً للقوات المسلحة المصرية ووزيراً للدفاع طوال 20 عاماً، حتى وضعته الأقدار ليكون على رأس إدارة المرحلة الانتقالية بعد أحداث يناير وإطاحة نظام مبارك عام 2011، حين تولى مجلس عسكري إدارة شؤون البلاد لمدة 18 شهراً، انتهت بوصول الرئيس الراحل محمد مرسي (المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين) إلى الحكم، في منتصف عام 2012.

ومع تولي مرسي الحكم عاد طنطاوي إلى منصب وزير الدفاع، إلا أنه لم يدم فيه طويلاً، إذ أعفاه الرئيس الجديد بعد شهرين من توليه المنصب في أغسطس (آب) 2012 من منصبه وزيراً للدفاع ومنحه قلادة النيل الوسام الأعلى في البلاد، وعينه مستشاراً له، وخلفه في المنصب الفريق أول عبد الفتاح السيسي، الرئيس الحالي لمصر.

وبينما كان يُنظر دائماً لطنطاوي كمرشح محتمل للرئاسة، إلا أنه منذ تنحيته من منصبه، توارى عن الأنظار تقريباً، بقيت الإشاعات تلاحقه بشأن صحته ومرضه، التي لطالما تبددت مع ظهوره في أكثر من مناسبة رسمية إلى جانب الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي.

شارك في 4 حروب

أسهم موعد تخرج طنطاوي في الكلية الحربية عام 1956 بأن يشهد مع مصر كل الحروب التي شهدتها منذ ذلك التوقيت، بداية من صد ما يُعرف بـ"العدوان الثلاثي" في عام تخرجه، ثم حرب الأيام الستة أو ما يُعرف في مصر بـ"نكسة" عام 1967، وما تلاه من سنوات حرب الاستنزاف وصولاً إلى عام 1973 ومشاركته قائداً للكتيبة 16 بسلاح المشاة في حرب السادس من أكتوبر عام 1973.

ولم تنته مشاركات طنطاوي العسكرية عند هذا الحد، ففي عام 1991 شارك في التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة لتحرير الكويت من قوات صدام حسين، رئيساً لهيئة عمليات القوات المسلحة وكان له دور بارز في تلك الحرب. وبقدر الحروب التي خاضها طنطاوي، حصل على العديد من الأوسمة والأنواط العسكرية من مصر وعدد من دول الخليج، بينها نوط الشجاعة العسكري بعد حرب أكتوبر.

التحق طنطاوي بالكلية الحربية في خمسينيات القرن الماضي وشارك بعد تخرجه في كافة الحروب المصرية (أ ف ب)

وطوال فترة توليه وزارة الدفاع على مدى عقدين من الزمن، بقي طنطاوي، أحد الرجال المخلصين لمبارك، وربطت بين الرجلين "علاقة وطيدة"، إذ كان المشير، "يحظى بثقة الرئيس، ووجد مبارك فيه شخصاً غير طموح في السلطة"، بحسب ما جاء في إحدى الشهادات التلفزيونية لمصطفى الفقي.

وتوافقت تلك الرواية مع ما نشره موقع "ويكيليكس" في إحدى البرقيات المسربة من وزارة الخارجية الأميركية، وتعود إلى عام 2008، إذ وصفت فيها وزير الدفاع المصري بأنه "لطيف ومهذب"، بيد أنها تضيف إلى ذلك أنه "كبير السن مقاوم للتغيير"، وجاء في فحوى البرقية، "يركز طنطاوي ومبارك على استقرار النظام والحفاظ على الوضع القائم حتى نهاية عهدهما. ببساطة، ليس لديهما الطاقة أو الرغبة أو أي رؤية عالمية لفعل أي شيء بشكل مختلف".

مرحلة السلطة وحكم البلاد

مع توليه إدارة شؤون البلاد في 11 فبراير (شباط) 2011، مرت أشهر وجود المشير طنطاوي على رأس السلطة بالعديد من المنحنيات، كان أبرزها أحداث العنف التي شهدتها البلاد مع المتظاهرين في ذلك التوقيت، ومرحلة تسليم السلطة إلى القيادة الجديدة المنتخبة، التي كانت حينها جماعة الإخوان المسلمين (حظرت لاحقاً وصنفت إرهابية) والرئيس المنتمي إليهم محمد مرسي.

ففي تلك الأشهر، وبعد أن نال الجيش إشادة واسعة من المتظاهرين لسماحه بخروج التظاهرات المناهضة لنظام مبارك، ثم لتعهده بتعبيد الطريق "لسلطة مدنية منتخبة لبناء دولة ديمقراطية حرة"، فضلاً عن الإثناء على الجيش كقوة وطنية توحدهم سرعان ما تحولت هذه الإشادات إلى غضب، بعدما اتهم الناشطون الجيش بالتدخل في ترتيبات الإصلاحات الديمقراطية، بالإضافة إلى أعمال العنف التي شهدتها البلاد في ذلك التوقيت، وسقط خلالها عشرات الضحايا، كان أبرزها ما عرف حينها إعلامياً بـ"أحداث محمد محمود" و"أحداث ماسبيرو"، و"أحداث استاد بورسعيد". وبين اتهامات ونفي من قبل المسؤولين العسكريين في ذلك التوقيت بتورطهم في تلك الأحداث، لم يدل المشير طنطاوي بشهادته حتى وافته المنية.

واليوم الثلاثاء، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال فعالية افتتاح أحد المشروعات في تصريحات بثها التلفزيون الرسمي "هذا الرجل (طنطاوي) والله بريء من أي دم حدث خلال الفترة. وأنا كنت مسؤولاً (كان يتولى رئاسة المخابرات الحربية)"، مشيراً إلى فترة تولي المجلس العسكري حكم البلاد منذ فبراير 2011 وحتى يونيو (حزيران) 2012.

وفي معرض تعليقه على وفاة طنطاوي، ذكر السيسي، "المشير طنطاوي كان له كلمة بأن إدارة مصر كأنها جمرة من النار في يده تحرقها لكنه لا يستطيع أن يتركها حتى لا تسقط"، مضيفاً "الرجل بريء من كل ما قيل من مسؤوليته في كل الدماء التي سقطت سواء في محمد محمود أو استاد بورسعيد أو ماسبيرو هو وكل المسؤولين في هذا الوقت".

وكانت تربط الراحل بالرئيس السيسي علاقة قوية، ففي حوار متلفز عام 2013، قال الرئيس المصري إنه حين يتحدث عن المشير طنطاوي يريد أن يراه الناس كما يراه هو، مضيفاً، "هذا الرجل عظيم. أي شيء يحدث الآن هو الذي بدأه وهو الذي كافح من أجله".

بعد أقل من شهرين من توليه السلطة أطاح مرسي طنطاوي من منصبه وعين بدلا منه الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزيرا للدفاع (أ ف ب)​​​​​​​

ومع قدوم سلطة جديدة إلى البلاد في منتصف عام 2012، أقال الرئيس الراحل المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي طنطاوي من وزارة الدفاع عقب شهرين من توليه رئاسة البلاد، وعين مكانه السيسي، الذي كان يشغل منصب قائد المخابرات الحربية آنذاك.

ومع تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد في شهور مرسي الأولى بالسلطة، حامت الاتهامات حول المشير طنطاوي بأنه "سلم الدولة لجماعة الإخوان، برغم فوز الفريق أحمد شفيق (آخر رئيس وزراء في عهد مبارك) على مرسي في الانتخابات الرئاسية".

وعلى الرغم من تحفظ طنطاوي على شهادته في هذا الشأن، فقد بقيت هذه الإشاعة تسيطر على عدد من الأوساط المصرية، إلا أنه وحسب ما جاء في كتاب الصحافي والبرلماني المصري مصطفى بكري "لغز المشير" الصادر عام 2016، الذي كانت تربطه علاقات وثيقة به، "فإن الخلاف بين الجماعة وطنطاوي كان قائماً، منذ أشهر قبل الانتخابات الرئاسية. ومع تصاعد الأزمة التي تلت الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، وأسفرت عن وصول مرسي وشفيق لجولة الإعادة، أشارت بعض التوقعات إلى احتمال فوز مرشح الإخوان محمد مرسي بها، حينها التقى مسؤول كبير (لم يذكر اسمه) المشير حسين طنطاوي بمقر وزارة الدفاع، وحذر خلال اللقاء من خطورة النتائج التي يمكن أن تسفر عنها الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبينما كان المشير يودعه أمام مبنى الوزارة، قال له المسؤول الكبير، إذا كنت لا تريد أن تتخذ قراراً، اترك شباب العسكريين يدبرون انقلاباً لإنقاذ البلاد، بخاصة أن فوز مرشح الإخوان محمد مرسي سوف يسبب كارثة كبرى، هنا بادره المشير بالقول، (وماذا سيقول علينا الناس؟ سوف يقولون إن هذا الانقلاب تم بمعرفتنا، وإن هناك تواطؤاً على التجربة الديمقراطية، كما أن العالم لن يتركنا وحالنا، بل سيسعون إلى التآمر على الجيش والدولة، ولذلك نحن ملتزمون باتفاقنا منذ البداية على تسليم السلطة لرئيس مدني منتخب، ولن أتدخل في الانتخابات ولن أسمح بذلك، والخيار الوحيد هو خيار الشعب، والرئيس الذي سيتم انتخابه سنوافق عليه أياً كان رأينا فيه، وسندافع عن شرعية انتخابه

علق هنا