لقد شاهدت، مع ملايين غيري، عملية تنصيب دونالد ترامب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية. وبالعودة إلى مراسم تنصيب بعض الرؤساء الأمريكيين السابقين، فإن المراسم التي جرت يوم الجمعة 20 /1 /2017 كانت مختلفة في جوانب مهمة؛ فهي مراسم ذات طابع ملكي أو امبراطوري، و هو ما أشارت إليه بعض الصحف البريطانية في يوم السبت 21 /1 /2017 وهذه المسألة ليست هينة، فالتنصيب الرئاسي في الديمقراطيات الجمهورية العتيدة، والولايات المتحدة من أبرزها، يتسم عادة بالبساطة، و هذا ما كان يجري حين يتم تنصيب الرؤساء الأميركيين السابقين. و قد يرى البعض أن ميل السيد ترامب للفخفخة هو السبب و أن سياساته قد تتحول إلى الواقعية و عدم الإسراف لاحقاً. و لكن الحقيقة أن قراءة تفوهات السيد ترامب بعد أداء القسم الدستوري بوصفه خطاباً أو discourse، و ليس نصاً أو text، ستكتشف أن ما اكتنف عملية التنصيب هو أبعد من الدلالات المباشرة لنص أقوال السيد ترامب. فقد بدأ الرئيس الجديد كلامه بشكر الرئيس السابق أوباما و زوجته ميشيل أوباما لأنهما عملا على جعل عملية انتقال السلطة سلسة؛ و هذا الكلام يعبر عن اللياقات البروتوكولية المعتادة. وما أن انتهى من ذلك حتى هاجم على نحو مباشر السياسات التي اعتمدها الرؤساء السابقون، وقد كان أربعة منهم حاضرون، و أحدهم جمهوري هو جورج دبليو بوش، مدعياً أن هذه السياسات قد أدت إلى تراجع مكانة الولايات المتحدة صناعياً و اقتصادياً و عسكرياً و اجتماعياً و أن الدول الأخرى قد تقدمت على حسابها نتيجة نقل المصانع للخارج، وكذلك لأن الولايات المتحدة قد تطوعت لحماية الدول الأخرى وأغفلت حماية حدودها. ثم أعقب ذلك بالقول إن ساعة التغيير الجوهري قد حانت منذ ساعة تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة، ثم أغدق الوعود الوردية في أنه سيحول ذلك التراجع المزعوم في مكانة الولايات المتحدة إلى نصر حاسم و تقدم دائم انطلاقاً من مبدأ الولايات المتحدة أولاً في نزعة شعبوية واضحة للعيان، وتقوم أساساً على شخصنة السياسة في دولة تحكمها المؤسسات. وقد أضفى على خطابه سمة اجتماعية من خلال الوعود للطبقة العاملة و الأسرة الأميركية بأن المستقبل سيكون أكثر أمناً و رخاءً و أن فرص العمل ستكون أوفر في فترة حكمه. و لم ينس أن يهاجم النزعة الإسلامية المتطرفة لداعش و القاعدة و أنه سيعمل على استئصال التطرف الإسلامي من على وجه الأرض؛ وهو أمر لا نختلف معه فيه. ثم أعقب ذلك تقديم بعض رجال الدين المسيحيين واليهود كلمات مباركة للرئيس الجديد و لعهده لإضفاء سمة تقديسية عليها لإظهار أنه رئيس مؤمن ومسدد من الرب مما قد يذكرنا بالثقافة الدينية الإسلامية في تعاملها مع الرؤساء العرب و المسلمين. وإذا ما تدبرنا خطاب التنصيب هذا، و ما اكتنفه من ممارسات و كلمات سبقته و أعقبته، و قمنا بمقارنته بالخطابات التاريخية لبعض الرؤساء الأمريكيين السابقين فسنجد أنه خطاب هجومي يستعيد نغمة الصراعات و الاتهامات بين المرشحين التي تسبق الانتخابات عادة و التي يتم تجاهلها في خطاب التنصيب. والحقيقة إن الفحص الدقيق لخطاب السيد ترامب يجعلنا نلاحظ الآتي: أولاً، إنه خطاب يمهد للدكتاتورية؛ إذ إنه و من خلال مهاجمة أساليب وسياسات الرؤساء السابقين في الولايات المتحدة فإنه يكون قد هاجم، ضمنياً، النظام الديمقراطي نفسه، و هاجم المؤسسات التشريعية التي تعاونت مع هؤلاء الرؤساء. ويخبرنا التاريخ أن الدكتاتور يبدأ، في العادة، بمهاجمة الساسة الذين حكموا البلاد في الماضي و تسببوا بالمشكلات التي تعاني منها البلاد، و في الوقت نفسه يزعم أن لديه حلولاً سحرية لكل المشكلات والإخفاقات السابقة، ونجد هذين الملمحين واضحين في خطاب الرئيس الأميركي الجديد. ولكن، قد يقول قائل إن النظام الديمقراطي يضع قيوداً على صلاحيات الرئيس في الولايات المتحدة، بحكم وجود منظمات سياسية مهمة و لها صلاحيات فعالة مثل مجلسي النواب والشيوخ، وهناك الصلاحيات الدستورية للمحكمة العليا، وهناك صلاحيات حكام الولايات المختلفة، وهناك صلاحيات الشركات الصناعية والتجارية الكبرى التي تمسك بزمام الاقتصاد في أميركا، فضلاً عن صلاحيات السلطة الرابعة أو الصحافة و الإعلام، لذلك فإن من التوقع أن وعود السيد ترامب ستصدم بهذه المؤسسات. و هذا قول فيه قدر كبير من الوجاهة، و لكنني أتوقع أنالسيد ترامب سيجد أن الصيغة الأمريكية في الحكم لا تتناسب و طموحاته، لذلك سيكون مطلب تعديل النظام السياسي بمنح الرئيس صلاحيات أكثر على رأس الأولويات لديه في المرحلة المقبلة.أما بخصوص صعوبة تعديل طبيعة النظام السياسي و إطلاق يد الرئيس في السياسات الداخلية و الخارجية فإنه أمر ممكن في حال أخذنا بالحسبان أن الحزب الجمهوري الذي ينتمي له السيد ترامب يمتلك الأكثرية في مجلسي الشيوخ و النواب الأميركيين مما قد يمكنه من تمرير تعديل دستوري يمنح الرئيس الأميركي صلاحيات أكبر. وهو أمريشبه التعديل الدستوري الذي أقره البرلمان التركي قبل بضعة أيام و هو التعديل الذي منح الرئيس رجب طيب أردوغان صلاحيات كثيرة كان يمارسها فعلياً و لكن من دون غطاء دستوري. ثانياً، أكد الرئيس الأميركي الجديد على إحلال مبدأ أمريكا أولاً، و هو مبدأ خطير قد يؤدي إلى عزلة أميركا عن البلدان الأوروبية و اليابان خصوصاً إذا تذكرنا أن السيد ترامب قد صرح بأن الاتحاد الأوروبي في حالة تفكك. وقد أضاف إلى ذلك التنويه بأهمية الجانب الاقتصادي في سياساته المستقبلية مما قد يعني اعتماد سياسة اقتصادية انفرادية. و نظراً لكون الازهار الاقتصادي العالمي يعتمد على سيادة القانون و السلم و التعاون و المصالح المشتركة، فإن النزعة المتعالية لخطاب الرئيس الجديد لن تكون ذات أثر إيجابي في هذا السياق، بل ربما تؤدي إلى انكماش اقتصاد الولايات المتحدة نتيجة لبوادر سياسات الحماية الاقتصادية التي يتوقع أن يلجأ إليها الرئيس الجديد. ثالثاً، لقد أحيا السيد ترامب في خطابه هذا، ضمنياً، قضية صراع الحضارات و الثقافات، و قد ظهر ذلك واضحاً من خلال تضمينمراسيم التنصيب بعض الخطابات ذات الطابع الديني ألقاها حاخام يهودي وأثنان من كبار القساوسة المسيحيين؛ و في الوقت نفسه، تم استبعاد رجال الدين المسلمين من إلقاء كلمة بالمناسبة على الرغم من أن عدد المسلمين في الولايات المتحدة يفوق عدد اليهود. و هكذا أهدر الرئيس الجديد عامداً فرصة إظهار أنه يميز بين الإسلام المعتدل و الإسلام المتطرف الذي يدينه كثير من المسلمين، و هو أمر يصب في صالح التطرف الإسلامي. رابعاً، إن مغازلة السيد ترامب للطبقات الكادحة من الشعب الأمريكي و وعودة بالرخاء و الازدهار في المستقبل تتناقض مع كونه قد سعى، و قبل تسنمه لمنصب الرئيس بحوالي أسبوعين، إلى إلغاء قانون الرعاية الصحية الذي تم تشريعه في زمن أوباما، وهو قانون تستفيد منه قاعدة عريضة من الشعب الأميركي. وقد تم له ذلك من خلال التحكم الذي تمارسه الأكثرية الجمهورية بمجلسي الشيوخ والنواب، وتحريك هذين المجلسين لإصدار مشروع قانون بإلغاء التأمين الصحي قبل مدة من تولي السيد ترامب لمنصبه. وهكذا، تم التمهيد لإلغاء ذلك القانون ذي الطابع الاجتماعي فكان الأمر التنفيذي الأول الذي يوقعه الرئيس الجديد ترامب هو التصديق على هذا القانون ووقف الدعم الصحي لحوالي عشرين مليون الأميركيين. وهذا يظهر أن الأفعال تتناقض مع الأقوال التي وردت في خطاب التنصيب. و أخيراً نقول: هل ستستطيع الديمقراطية الأمريكية أن تنتصر في صراعها مع محاولات إفراغها من محتواها، و هل ستتمكن من وقف عملية تحويل الحكم إلى نظام دكتاتوري مقنع؟ ذلك ما سوف تكشف عنه السنوات الأربع القادمة.