بات من الصعب جدا الترويج السياسي بعيدا عن الوثيقة والمعلومة الدقيقة، وبدون ذلك سيفقدالسياسي الكثير من مصداقيته وموضوعيته، لاسيما حين يتعلق الأمر بموضوعات تمسّ الأمن الوطني، وتؤسس خطابها على تصورات مُسيسة، وفاقدة للمهنية، ولها علاقة فاضحة بالمزايدات السياسية فمنذ أكثر من أسبوع وحديث الحدود المائية بين العراق والكويت هو الشغل الشاغل في وسائل الإعلام، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، ومايبدو غالبا على هذه الأحاديث هو الانفعالية، والمواقف المخلوطة بالحساسية السياسية، حدّ تداولها وكأنّها واقعةُ صراع، وأزمةٌ مفتوحة على احتمالات عدّة. تصريحات الناطق الحكومي وضعت الموضوع أمام الأنظار بحذر، وضمن سياق ربط هذه المشكلة بماهو تاريخي في قرارات دولية سابقة، أو ضمن اتفاقيات ثنائية بين العراق والكويت، وهو مايعني حاجة التعاطي مع الموضوع بنوع من الواقعية السياسية، بعيدا عن التهويل، أو حتى اصطناع الازمات، وفي ظل ظروف سياسية معقدة يعيشها العراق والمنطقة.. إنّ ترسيم الحدود المائية بين العراق والكويت أمرّ معقد وخاضع لحسابات دولية، وليس سياسيا بالمعنى البسيط، وحين يدعو البعض لوضع ماهو سياسي على حساب ما هو (دولي) فإنّه سيكون باعثا على الإثارة، وإعطاء فرصة للمزايدات السياسية والاسقاط السياسي بين الفرقاء، وربما لإثارة مشكلات اقليمية قابلة للحلِّ عبر الحوار والتفاهمات السياسية. ومن أجل توضيح القصد، واعطاء الرأي العام مجالا لمعرفة ملابسات الموضوع، ينبغي وضع الأمر في سياقه الدستوري، والذي يتعلق بحماية السيادة العراقية وحقوقها، من خلال وضع الاتفاقيات التي تتعلق بالحدود المائية، وبـ (قناة خور عبد الله) أمام مجلس النواب العراقي، وقيام وزارة الخارجية باستيضاح الأمر وتعقيداته، وحتى مراجعة التصريحات التي تصدر من هذه الجهة أو تلك..
السياسة والتاريخ من الصعب جدا فصل وقائع السياسة المضطربة عن محنة التاريخ، لاسيما ما يتعلق بتداعيات غزو الكويت، وماترتبت عليه من عقوبات والتزامات دولية، والتي تعكس خطورة التوريط السياسي للنظام السابق، ودوره في ترك الكثير من المشكلات عميقة الأثر، وذات التأثيرات الخطيرة على السيادة وعلى الحقوق الوطنية التي تخصّ الحدود والثروات. من هنا ندرك أهمية مراجعة واقعية لملفات هذا التاريخ، وعلى ضوء المعطيات القانونية والوثائق، وفي سياق فتح حوارات مهنية بين العراق والكويت، أو حتى دعوة مجلس الأمن لمراجعة بعض قراراته ذات الصلة بعد أن استنفذت أغراضها، وماعادت لها حاجة أو ضرورة، وهو أمرٌ منوط بالحكومة العراقية وبوزارة الخارجية، مع تزويد الرأي العام بالمعلومات وعبر المنابر الاعلامية الرسمية، لتعزيز ثقة المواطنين بمؤسساتهم الرسمية أولا، وبتعزيز هيبة الدولة وسيادتها أمام جمهورها ثانيا، فضلا عن وضع مثل هكذا مشاكل في سياقها المهني والقانوني، وعبر الاعلان عن الوثائق والاتفاقات التي تخصّ الموضوعات ثالثا.
الخلافات ومسؤولية المواجهة تاريخ العراق السياسي حافل بالمشكلات، وبالمواقف الخلافية ازاءها، ولعل طبيعة نظام الحكم المركزي هي المسؤولة عن الكثير من تلك السياسات المثير للجدل، والباعثة على إحداث المشكلات التي نعاني من تداعياتها اليوم. ومن أخطر هذه المشكلات، تلك التي ارتبطت بالحرب مع ايران، ومع غزو دولة الكويت، والتي أسهمت الى حد ما في فرض معطيات سياسية وحتى اجرائية على العراق، إذ ارتبطت هذه المعطيات بوثائق واتفاقات دولية جائرة الى حد كبير، فرضت حصارا، وتحجيما للكثير من الحقوق السيادية، وهذا ما ينبغي مراجعته برويةٍ، وعلى وفق النظر بمصالح الشعب العراقي والحافظ على حقوقه وثروته، لكن هذه المراجعة لاتعني العشوائية، ولاتعني اصطناع المزيد من المشاكل، حيث تتطلب مسؤولية المواجهة مجموعة من الاجراءات، ومن خلال تشكيل فرق للخبراء، فضلا عن لجان سياسية تراجع ملفات العلاقات الدولية ذات الشأن بالعقوبات والاتفاقات، وكذلك ملفات العلاقات الاقليمية ذات الصلة بايجاد بيئة حوار واقعية، تنظر للمشكلات والأزمات على وفق الحاجة الى معالجتها، ومن منطلق تثبيت الحقوق من جانب، والحصول عليها من منطلق الشرعية الدولية والاتفاقات المعمول بها بين الدول.