بغداد- العراق اليوم:
اليوم أدى الرئيس الأمريكي الجديد اليمين الدستورية، وهو يضع يده على نفس الإنجيل الذي استخدم في تنصيب إبراهم لنكولن والرئيس أوباما. ولم يكن مفاجئا أن مراسم التنصيب قد تخللها دعوات لكي يبارك الله الحاكم الجديد.
قد يعتقد بعضنا اليوم بأن المراسم والتقاليد المتعارف عليها سياسياً في مثل هذه الحالات هي وليدة عصرنا، إلا أنها، في الحقيقة، أشكال لطقوس تعود بداياتها إلى مئات السنين، واستمرت بأشكال مختلفة في تنصيب الحكام حول العالم عبر العصور. وقد يفاجئ عنوان المقالة هنا، بأن مراسم تنصيب أجدد رئيس يعرفه العالم تشبه أقدم ماوصلنا من الشرق القديم، وبالتحديد من بلاد مابين النهرين.
لقرون عديدة، ترافق تنصيب الحكام الجدد مع مراسم تتويج، استخدمت فيها التيجان والديادم والأكاليل، لترميز مكانتهم وقدسيتهم، وفي أوروبا استخدمت التيجان كمقابل للهالة التي تزين الآلهة والقديسين والأنبياء، وقد واستمرت رمزيتها، ولكنها أصبحت تذكيرا بصرياً ومادياً بقدسية الملكية، لتشير إلى أن الملك نفسه مقدس، أو لتجسد مباركة الآلهة للحاكم. وكانت هذه المراسم عادة تتضمن وضع التاج على رأس الحاكم الجديد وتقليده رموز السلطة كالصولجان وخاتم الحكم. وكان يترافق التتويج أيضا بتعهد أو توقيع من الحاكم الجديد، ثمّ مباركة أو إعلان الولاء من قادة وأعيان من البلد نفسه، ومن سفراء وممثلين للممالك الصديقة . وعادة كانت تلي المراسم مظاهر احتفالية.
مع أن العالم الإسلامي لم يتبن طقوس التتويج باستخدام التيجان، إلا أن فكرة المباركة الإلهية دون شك دخلت في صلب مفهوم السلطة السياسية، وأخذت بعداً جديداً خلال حكم الأمويين في الشام، فبتقلدهم الحكم، وفي ظل الأزمات السياسية التي مرت بها الإمبراطورية الإسلامية الوليدة، بدأت تظهر مفاهيم وأسئلة جديدة عن معنى الحكم، وصورة الحاكم، ومصدر سلطته. بعد أن كان الحكام يعلنون أنهم "خلفاء" للرسول، أصبح الخلفاء الأمويون "خلفاء" الله على الأرض. وبدلاً من مراسم التتويج، اتبع الخلفاء مراسم "البيعة"، وبها كان يقدم القادة والحكام ولاءهم، للخليفة مباشرة أو لحكامه.
في العالم العربي اليوم، بعض أشكال هذه التقاليد لازال متبعاً، مع الحفاظ على بعده الديني، فملك السعودية، وأمراء دول الخليج، وملك المغرب، تقدّم لهم البيعة مع استلام السلطة كاعتراف بشرعيتهم وكتعبير عن الولاء لهم.
الملك المغربي، محمد السادس، في احتفالات تلت توليه الحكم، وهي مناسبة أصبحت عيداً رسمياً في البلاد كـ"يوم العرش".
قبل أن تصبح سطلة الحاكم مرتبطة بمباركة الآلهة، كان الحاكم نفسه إلهاً، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك هو مثال الفراعنة، فمثلاً كان يمثل الفرعون على أنه إله الشمس رع، وكذلك المثال الذي لايزال متبعاً حتى يومنا هذا هو الإمبراطور الياباني، الذي يعتبر من سلالة أماتيراسو، آلهة الشمس بحسب ديانة الشنتو اليابانية، واستمرت هذه العلاقة بأشكال ودرجات متفاوتة. لكنها تطورت لتصبح نوعاً من المباركة من الألهة للحكام، وهو تقليد استمر حتى اليوم في الكثير من بقاع العالم، وقد تولى هذه المهمة الكهان، والبابوات، ورجال الدين، أو حتى الملائكة كما تخيلها فنانو العصور الوسطى وصورّوها في منحوتاتهم ولوحاتهم، وهو مانرى صداه اليوم في تنصيب الرئيس الأميركي.
فسيفساء بيزنطي من القرن 12، يتوج فيه السيد المسيح روجر الثاني، ملك صقلية
وصلتنا من الشرق القديم واحدة من أقدم تجليات مباركة الآلهة للحكام في"مسلة حمورابي"، القطعة الأثرية المذهلة من الألفية الثانية قبل الميلاد، التي اشتهرت لأنها حملت القوانين التي تعرف بـ"شريعة حمورابي،" والتي نقشت عليها باللغة البابلية بالخط المسماري، على شكل خطاب من حمورابي لشعبه، فيها مقدمة، وخاتمة و بينهما نقش 282 قانونا، وتعتبر من أقدم القوانين التي وصلت إلينا من تاريخ البشرية.
مسلة حمورابي موجودة اليوم في متحف اللوفر في فرنسا.
في القسم العلوي للمسلة، مشهد فيه إله الشمس "شمش" يعتلي عرشه، وعلى رأسه تاج، ومن كتفيه تنبعث أشعة الشمس، وهو يسلم حمورابي رموز شرعيته. هذا اللقاء بين حمورابي وشمش، يمنح الشرعية للقوانين على أنها وصايا من الألهة، ينقلها وينفذها حمورابي على الأرض. وهذا الدعم الإلهي هو ماتؤكده افتتاحية التشريع المنقوشة في مقدمة القوانين، والتي تقول بأن الألهة:
أعطوا مدينة بابل اسمها اللامع الشهير
وجعلوها مبجلة في كل أنحاء الأرض
وبنوا لها قواعد ثابتة كالسماء والأرض
وأسسوا لها في داخلها حكماً أبديا
كان ذلك عندما اختار أنو وإنليل حمورابي
أميراً ورعا يخشى الآلهة
ليطبق العدالة على الأرض
وهكذا عندما طلب مني مردوخ قيادة البشر على الأرض
ليتبعوا سلوكا صحيحاً
جعلت الأرض تتكلم بالعدل والحق
وحسنت ظروف حياة البشر
منذ بداية فكرة الحاكم في التاريخ البشري، ارتبطت مراسم التنصيب بضرورة إعلان شرعية الحاكم الجديد، في أمثلة عديدة، قد جاءت هذه الشرعية على نحو شبه دائم بمباركة السلطة الدينية. ولذلك فإن هذه المراسم تتعدى كونها تكميلية لصورة الحاكم، لأنها جزء أساسي من فكرة السلطة نفسها. وهكذا سنرى في حفل "تتويج" ترامب كل أشكال المبايعة، والمباركة الدينية، وتقديم الولاء، وغيرها من طقوس التتويج الموروثة منذ العصور الغابرة، ولكن مع فارق واحد هنا، هو أنه في المدينة نفسها هناك احتفال آخر يعترض على "الحاكم" ويرفضه، فإلى أين ستتجه الولايات المتحدة بعد مراسم التتويج؟ وإلى أين سيمضي العالم؟