بغداد- العراق اليوم: في أغلب الظن، لم يكن ارتكاب مجزرة قصف بلدة حلبجة بالأسلحة الكيماوية خاليا من الدلالة. حدث ذلك قبل أكثر من 3 عقود، على أعتاب حلول عيد النوروز القومي الكردي، في مطلع فصل الربيع حيث تزداد طبيعة كردستان العراق الخلابة سحرا وجمالا. فقد مثل ضرب المدينة العراقية بالغازات السامة آنذاك ذروة دموية نظام البعث العراقي، في جريمة إبادة جماعية متكاملة الأركان وبأسلحة محرمة دوليا. وهكذا غدت حلبجة مذاك عنوان شعب وقضية، وبات اسمها مرادفا لهيروشيما وناغازاكي والهولوكوست، كإحدى أكبر وأشرس حملات التطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية. ولتخليد وتوثيق هذه الفاجعة، تم تأسيس متحف ضحايا القصف الكيماوي في حلبجة تطبيقا لفكرة الرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني، حيث افتتح عام 2003 ليجسد ويعرض تفاصيل الجريمة المروعة بكل دقائقها، وبما يبقيها حية في الأذهان. عند مدخل المتحف هناك مجسم للصورة الأشهر التي انتشرت حول العالم مختزلة مأساة حلبجة، حيث الأب محتضنا رضيعه الصغير كي يحميه وكلاهما ممدان على الأرض، رغم أن الاحتضان لا يقي من استنشاقه للغاز، لكنه ضمه كي يشعره بحنان الأبوة، ربما قبل أن يقضيا معا بذاك الغاز القاتل العابق برائحة التفاح في محاولة لجعل الضحايا، خاصة الصغار منهم، يقبلون على استنشاق هواء الموت بنهم كي لا يحاولوا تجنبه. وما أن تدخل باحة المتحف الخارجية حتى تختلط عليك مشاعر الألم والأسى الممزوجة بالفخر، حيث سقط القتلة وذهبوا وعلى رأسهم صدام حسين وابن عمه علي الكيماوي، الذي أطلق عليه هذا اللقب كونه قائد عملية الإبادة الجماعية تلك (يعرض المتحف الحبل الذي أعدم به الكيماوي والقلم الذي وقع به قرار إعدامه). وبقيت المدينة شاهدة على مأساة شعب ونكبته، لكن أيضا على صموده وانتصاره ونيل حريته مما جعلها مبعث التبجيل والتقدير حول العالم، كونها باتت أيقونة للشعوب المكافحة والمضطهدة ورمزا لانتصار الخير على الشر. وتعرض في الباحة الخارجية آليات عسكرية لنظام البعث، منها طائرة حربية كانت قد شاركت في قصف حلبجة كيماويا، فضلا عن مجسم لمصور صحفي يحدق عبر كاميرته، تكريما للصحفيين الذين وثقوا آثار المجزرة وصور ضحاياها. في ردهات متحف ضحايا القصف الكيماوي الأولى، تجد على الجدران صورا لحقب وأحداث تاريخية مختلفة في حلبجة، ولمعالمها وأبرز شخصياتها، حيث اللافت أن السيدة عادلة خان كانت قائم مقام منطقة شهرزور حلبجة قبل أكثر من قرن من الزمان (الآن أيضا تشغل السيدة نوخشه ناصح منصب قائم مقام حلبجة)، فضلا عن صور لتلميذات في المرحلة الابتدائية في مدارس حلبجة تعود إلى عام 1957 وهن يرتدين زيا مدرسيا يشي بالتقدم والانفتاح الاجتماعيين الذي كانت تعيشه المدينة. لكن سرعان ما ترى في الردهات الداخلية المجسمات المعروضة لضحايا المجزرة، الذين قضوا بمجرد استنشاقهم للغاز على حين غرة. فهذا مجسم لسيدة كانت تخبز والتنور أمامها والخبز تسمم كما البشر، وهنا طفلة تتأرجح لكنها توقفت فور استنشاقها غاز الموت وإن ظلت لعبتها لبضع ثوان تتحرك كونها جماد لا يتنشق ذاك الهواء القاتل. وهذا شيخ طاعن في السن ممددا على الأرض، وهنا صبية ملقية وشعرها يغطي وجهها، وكلها مجسمات مستمدة من مشاهد ووقائع حقيقية، حتى إن هناك مجسمات للماشية والدواجن النافقة بفعل الغاز السام الذي قتل كل ما هو كائن حي في المدينة. وفي زاوية أخرى تعرض، صور للضحايا ممن نجوا من الكارثة لكن بقوا معاقين ومشوهين بفعل التسمم، بما يعكس فداحة الجريمة ووحشيتها المنفلتة من كل عقاب ورادع، لدرجة أن التربة والبيئة عامة في منطقة حلبجة لا زالت تعاني من آثار التسمم الكيماوي. وثمة توثيق مفصل لأسماء الضحايا على جدران إحدى قاعات المتحف. لا يتمالك الزائر دموعه عند التمعن في مجمل تلك المشاهد والمجسمات والصور، فالجولة داخل ردهات المتحف وأقسامه تضعك في قلب الحدث وأجوائه بأدق تفاصيلها وكأنك شاهد على المذبحة، تعيشها لحظة بلحظة، كل شيء موثق ومتجسد واقعا وحقيقة من دون تهويل و لا مبالغة، بل إن ما هو معروض مجرد غيض من فيض آلاف قصص الألم والعذاب الموثقة التي عاشتها حلبجة وأهلها. ولعل من أكثر ما يثير انتباه الزائر ويبهره، تحويل المتحف فوارغ الصواريخ والقذائف التي دكت بها حلبجة بالنار الكيماوية إلى مزهريات وأحواض، تتوسطها وتزينها أزهار ملونة زاهية وعابقة بالسمو والصفاء، في دلالة رمزية معبرة إلى أن البقاء للحق والجمال والسلام مهما تغولت آلة القتل المجنونة المسيرة بعقلية عنصرية فاشية. في نهاية الزيارة يعرض على الزائر فيلم وثائقي للكارثة، يرصد كل شيء بالصوت والصورة منذ اللحظات الأولى من بدء نفث الطائرات لسمومها وحممها الكيماوية على رؤوس الأبرياء الآمنين العزل. ثمة طاولة مخصصة لتدوين كلمات الزوار وانطباعاتهم عند المخرج، لكن هول ما تشاهده وتعايشه داخل المتحف تعجز الكلمات والتعابير عن البوح به، أقله في تلك اللحظات التي يبدو بها الصمت والتأمل أبلغ وأكثر تعبيرا من أي وصف أو سرد. المحطة الأخيرة كانت زيارة نصب الضحايا في المقبرة المخصصة لهم حيث شواهد قبور الضحايا من حولك ممتدة امتداد أفق الحرية المفتوح.
*
اضافة التعليق