بغداد- العراق اليوم:
عند بداية الشارع التاسع في مقبرة النجف، توقّفت حافلة صغيرة بيضاء بالقرب من آلية عسكرية وترجّلت منها خمس فتيات توجّهن بسرعة نحو قبر القائد العسكري أبو مهدي المهندس وهنّ يلتقطن الصور دون توقف. انضمت الفتيات إلى رجال يلطمون صدورهم ونساء يبكين، تجمّعوا حول القبر الذي أصبح مقصدا لآلاف الشيعة المطالبين بالثأر من الولايات المتحدة، بعد أكثر من شهر ونصف الشهر على مقتل المهندس بغارة أميركية في بغداد أودت كذلك بحياة صديقه الحميم قائد قوة القدس الإيرانية قاسم سليماني. ويتدفّق آلاف الشيعة يوميا على مدينة النجف المقدّسة لديهم لزيارة مرقد الإمام علي بن أبي طالب، لكن قبر المهندس بات محطة إضافية في رحلتهم الدينية. وقال عباس عبد الحسين المسؤول عن أمن الموقع لوكالة فرانس برس إنّ القبر “تحوّل إلى مزار وليس فقط مقبرة خاصة”. وأضاف بينما كان رجل إيراني يتلو انشودة على وقع أصوات بكاء الحاضرين “نساء وأطفال ورجال (…) يأتون من إيران ولبنان والبحرين ليزوروا أبو مهدي، والأعداد يوميا أكثر من ألف” شخص. وتقدّم شاب ببطء نحو القبر، وجلس إلى جانبه تحت صورة ضخمة للمهندس، يلطم صدره ووجهه ويصيح “الله ينتقم من أمريكا”. وشكّلت الغارة الأميركية في الثالث من كانون الثاني/يناير ضربة كبرى لطهران وللجماعات الموالية لها، لأنها أطاحت بأهم شخصيتين عسكريتين مكلّفتين ترسيخ نفوذ إيران العسكري خارج حدودها. وكان المهندس، الذي يحمل الجنسيتين العراقية والإيرانية، حجر الزاوية في الطموحات الإيرانية في العراق والقوّة المحركة للجماعات المعادية للولايات المتحدة. وتعهّدت الفصائل الشيعية بالانتقام، مهدّدة القواعد والمقرات الدبلوماسية والجنود الأميركيين الموجودين في العراق وعددهم أكثر من خمسة آلاف جندي. – صدمة كبرى – لكن بعد سبعة أسابيع، لا يزال الرد مؤجلا فيما يجسد إرث المهندس قبره في “وادي السلام” وغرفة زجاجية في مكان مقتله قرب مطار بغداد. وتقول أم حسين الآتية من البصرة انّها اجتازت مسافة 450 كلم في إحدى الحافلات الصغيرة لتزور القبر. وأوضحت المرأة التي ارتدت العباءة الجنوبية التقليدية السوداء “كلما نأتي لزيارة الإمام علي، سنزور الشهيد البطل (المهندس). هذا واجب”. ومن ساعات الصباح الاولى وحتى المساء، تتوقف حافلات الزوار الآتين من مناطق مختلفة ودول أخرى تباعا قرب مدخل المقبرة، بينهم من كان يقاتل مع المهندس، ومن تعرّف عليه فقط بعد مصرعه. ويروي سكان في المدينة أنّ خبر مقتله أحدث صدمة كبرى في نفوس أنصار الجماعات المسلحة الذين احتشدوا لساعات في المقبرة قبيل وصول جثمانه، مشيرين إلى أنّ زوجته ونساء أخريات من قريباته قمن بدفنه تحت أنظار الرجال وصحافيين منعوا من التقاط الصور. و”وادي السلام” واحدة من أكبر مقابر العالم من حيث المساحة الجغرافية، وتدور حولها أسطورة تقول إنها تتسع لكل المسلمين، علما أن الغالبية العظمى من ملايين مدفونين فيها ينتمون للمذهب الشيعي. وفي السنوات الأخيرة، ازداد عدد القبور التي حفر عليها لقب “شهيد” وصور رجال من كل الأعمار حاملين سلاحهم بيدهم، بينهم عناصر في الحشد الشعبي قتلوا خلال معارك مع تنظيم الدولة الاسلامية. – “لن تُنسى” – من البصرة أيضا، جاءت سعاد لتشكر المهندس على قتاله ضد الجماعة المتطرفة. وقالت بهدوء وهي تذرف الدموع “هو الذي رد داعش، هو البطل رحمة الله عليه”، معتبرة أنّ “مقتله أثّر علينا وعلى الحشد كلّه”. وعلى الرغم من أن فالح الفياض مستشار الأمن الوطني العراقي هو رئيس هيئة الحشد الشعبي، كان المهندس إلى حد كبير القائد الفعلي لهذه الهيئة التي شكّلت بفتوى من المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني في 2014 لوقف تمدّد تنظيم الدولة الاسلامية. وعمل المهندس على تطوير الحشد لجعله منظمة لا تخضع لقيادة كاملة من رئيس الوزراء ولا تتبع لقوات الأمن التقليدية، رغم دمجها مع القوات الحكومية. وما زالت بعض فصائلها المتشددة، وبينها كتائب حزب الله، تمارس نشاطات مستقلة عن بغداد، كمحاولة استهداف القوات الأميركية حسبما تقول واشنطن، وسط تساؤلات حول مستقبل الحشد ومركزية القرار فيه بعد مقتل المهندس وتصاعد المنافسة بين فصائله. لكن في مقبرة النجف، لا وقت حاليا سوى للبكاء. وبعدما تجمّع نحو عشرين شخصا حول القبر الذي يتوسط مجموعة قبور لقادة عسكريين شيعة آخرين، فتح الإيراني رضا أبادي هاتفه وبدأ بتلاوة انشودة دينية بصوت حزين. وقال أبادي الآتي من كرمان مسقط رأس سليماني “كان علينا أن نأتي الى هنا لنظهر احترامنا لهذا العزيز على الايرانيين والعراقيين”. وأضاف “باذن الله ذكرى الشهيدين الحاج قاسم وأبو مهدي ستبقى ولن تُنسى”. ووقف الزوار الواحد تلو الآخر فوق القبر يلتقطون الصور لأنفسهم وهم يذرفون الدموع، بينما كانت امرأة تركض خلف طفلها الذي كان يسير بعفوية فوق القبور حاملا بيده مسدسا بلاستيكيا ومرتديا ملابس شبيهة بملابس رعاة البقر الأميركيين.
*
اضافة التعليق