متابعة- العراق اليوم: اجرى اللقاء: فؤاد الطائي في مساء يوم الأربعاء المصادف السابع من تشرين الأول 1959 وعند الساعة الثامنة والنصف، توقفت اذاعة بغداد عن بث برامجها المعتادة لتذيع خبراً هاماً من قبل الحاكم العسكري العام أحمد صالح العبدي، يعلن فيه عن محاولة فاشلة استهدفت الزعيم عبد الكريم قاسم، وطمأن فيه الشعب العراقي بأنه بصحة جيدة لا تدعو للقلق ودعاه الى الهدوء والسكينة ومنع التظاهر والتجمعات، وأخيراً طلب من القوات المسلحة القيام بمهامها في تنفيذ القرارات وضبط الأمن . كانت مصادرنا لتقفي الأخبار ومتابعة الحدث في ذلك الزمن محصورة على جهاز الراديو والقناة الرسمية للتفزيون بالنسبة لسكان بغداد وكذلك ما كانت تنشره الصحف المحلية التي كنا ننتظرها نحن الشباب بلهفة وحماس في ضحى كل يوم قرب المكتبات . كان يتكرر اسم مستشفى السلام الواقعة في شارع النضال قرب ساحة الأندلس كثيراً، حيث يتعالج فيها الزعيم المصاب بطلقات نارية في أطرافه، حتى أصبحت هذه المستشفى بمرور الوقت وكأنها البديل الموقت لوزارة الدفاع. كان يتولى الزعيم مهام عمله لما يتم من قرارات واجتماعات مع المسؤولين ومشاورات وزيارات، وهو في سريره خاصة وأن إقامته هناك كانت قد امتدت لأكثر من شهر. صور الزعيم في الصحف تنشر تباعاً مع مستقبليه وهو يحيّ الجماهير من شرفة المستشفى، وكذلك وهو يتوسط مرافقيه والعاملين في خدمته من الأطباء والممرضات المبتسمات للكاميرا بانبهار حتى كنا نحس على ملامحهن ذلك الفرح الخاص لرعايتهن لمريض غير عادي وشخصية هامة مثل عبد الكريم قاسم ! وتشاء الصدفة بعد 56 عاماً من ذلك الحدث أن ألتقي بإحدى الممرضتين في منزلها وقد شارفت الثمانين من العمر لكنها ما زالت تحتفظ بتلك الملامح المشرقة متحدية أمراض الشيخوخة التي أبطأت خطواتها بالاستعانة بعكازة لا تفارقها ... في البدأ وجدتها مترددة وفي خوف وتحفظ واضح غير مبرر في اجراء هذا اللقاء، لكنها عادت وقبلت ولكن بشروط... أن لا أذكر شيئا عن سكنها في المهجر محطتها الأخيرة وأن لا أسألها في السياسة! اتفقنا .. وبدأت معها أن تعرّف نفسها :
ـ لوريس كريم نصري، ولدت في بغداد عام 1935، وعائلتي لقبت بالجزراوي نسبة الى المدينة التاريخية (جزره) أو أبو عمر الواقعة في الجنوب الشرقي من تركيا قرب الحدود العراقية السورية. وكان والدي قد إنتقل الى العراق واستقر فيه وتزوج وأنجب بنتان وولدان أنا كبيرتهم، وأحد أشقائي هو الآن طبيب جراح والآخر كان إعلاميا في وكالة الأنباء العراقية وشقيقتي كانت تعمل في شركة للنفط وكلنا اليوم خارج الوطن.
ـ وفي بغداد أين كان سكن عائلتك ؟ ـ كان في منطقة كامب الأرمن قرب ساحة الطيران، شيد والدي بيتنا هناك وكان له صلة بالبناء كونه يملك معملا للكاشي.
ـ وماذا عن تحصيلك الدراسي ؟ ـ لظروف عائلية وفقدان الوالدة مبكرا الى جانب مرض والدي مع حاجة أشقائي لمواصلة الدراسة فقد أضطررت للاكتفاء بالمرحلة الابتدائية والتقديم الى مدرسة الممرضات مع ولعي بمجال التمريض. وكانت هذه المدرسة ملحقة بالمستشفى الجمهوري كذلك قسمها الداخلي والدراسة فيها ثلاث سنوات وكان الصف الواحد يضم بحدود 30 طالبة، ولم نكن نغادر هذا الوسط إلا في عطلة نهاية الاسبوع لزيارة ذوينا .
ـ وبعد إنهاء دراستك ؟ ـ عملت في أكثر من مستشفى حكومي وأهلي، كالمستشفى الجمهوري ومستشفى التويثة للأمراض الصدرية ومستشفى السلام ومستشفى الكرخ الجمهوري بالعطيفية والأخيرة هذه بقيت فيها حتى حصولي على التقاعد. وبعد خدمة 36 سنة، تخللها خدمات في المستشفيات الأهلية عند أجراء العمليات الجراحية فقط، مثل مستشفى السامرائي ومستشفى النجاة .
ـ ولوريس المرأة ما الذي بقي لها؟ ـ كانت حياتي عمل متواصل وحب لهذه المهنة الانسانية مضافاً الى ذلك إلتزامي العائلي بصفتي المربية والمعيلة لأشقائي ما جعل الالتفات الى موضوع الزواج أمراً صعباً، وكما ترى مضى العمر سريعا وفاتني القطار !
ـ وما الدافع الأساس لمغادرتك الوطن بعد تقاعدك؟ ـ هناك جملة أسباب، وكما اتفقنا أن لا نتحدث بالسياسة، وكلنا يعرف الحال، وقد تغير كل شيئ، شعرت بالوحدة والاحباط، فاتخذت قراري بالرحيل برفقة شقيقي، الى المجهول... المهجر، وكانت شقيقتي قد سبقتني بمغادرة الوطن بخمسة عشر عاماً ..
ـ الآن نبدأ بعد هذه الخلفية بالجانب الشيق والمثير في هذا اللقاء: مستشفى السلام وعملك ضمن الطاقم الخاص لطبابة ورعاية الزعيم عبد الكريم قاسم بعد إصابته بجروح في محاولة الأغتيال تلك، حدثيني؟ ـ كنت في حينه أعمل في هذه المستشفى، وقد انتهت ساعاتي في الخفارة وكان مساء الأربعاء السابع من تشرين الأول 1959. وتوجهت عبر رواق الطابق العلوي للخروج، وإذا بي أصبح وجهاً لوجه مع مجموعة مسرعة يتقدمهم الزعيم والدماء تظهر على بزته العسكرية، وفي نفس الوقت أغلقت كل منافذ المستشفى. وأشير اليّ بالعودة والمرافقة للمشاركة في إسعاف الحالة. وعندما تم ذلك، أمرني وزير الصحة د ..عبد اللطيف الشواف، الذي حضر مسرعاً، بالبقاء مع زميلتي رئيسة الممرضات (غزالة توفيق) وهي مسيحية أيضاً، البقاء حتى الصباح، ومنع أي ممرض أو ممرضة بالقيام بخدمته ودخول غرفته عدانا. واستمر هذا الحال حتى خروجه من المستشفى !
ـ كيف كانت الاجراءات الأولية ازاء تلك الحالة؟ ـ كان قد حضر على وجه السرعة الى المستشفى الأطباء المعنيين إضافة كما ذكرت الى وزير الصحة والدكتور والأستاذ الجراح خالد القصاب والدكتور هادي السباك مدير المستشفى وكذلك مدير الأمور الطبية. فتشكلت لجنة من مجموعهم لفحصه وتقييم الحالة، وحولوه مباشرة الى غرفة العمليات، بعد أن تولى مرافقوه فقط من العسكريين تغيير ملابسه بملابس المستشفى، وكان هؤلاء قد خصصت لهم غرفاً خاصة مجاورة لغرفة الزعيم طيلة تلك الفترة، وكنا أنا وزميلتي نقوم بخدمته وتقديم الدواء والطعام تحت مراقبتهم وتوجيهاتهم على مدار الساعة، إضافة الى عملهم في الحماية وإدارة الزيارات الخاصة .
ـ هل كان تخديره خلال العملية الجراحية موضعياً؟ ـ كانت حالته تستوجب التخدير العام وهي الأكثر عملية بالنسبة للجراح والمريض معاً، وبعد نقله من غرفة العمليات بدأت مهمتنا أنا وغزالة. فكنا نتولى معاً أو بالتناوب تعديل الفرش والرعاية المطلوبة، وكانت خفارتي معه في النهار غالبا لأربع ساعات تقريبا وأذهب لأستريح في البيت. في حين تكمل زميلتي خفارتها الليلية له ولبقية المرضى الذين يشاركوه المكان ويتسلى في التحدث اليهم والمرور على أسرتهم يوميا ، وأصر الا أن يكون واحدا من نزلاء المستشفى بكل صدق وتواضع .
ـ عرف عن الزعيم تعوده تناول طعامه من يد شقيقاته محمولاً في (سفرطاس) في مقره بوزارة الدفاع، هل طلب الشيئ نفسه خلال إقامته في المستشفى؟ ـ ذكرت لك بأنه يميل للتعامل معه كمواطن وواحد من بقية المواطنين من المرضى، والتفرد بأكل خاص يسبب له إحراجا، ولم يحصل مرة أن طلب أو اشتهى أكلة معينة أو طلباً خاصاً يميزه عن الآخرين .
ـ وماذا كان يتحدث أو يعلق أمامكم خلال تواجدكم قربه؟ ـ كان مجاملاً ولبقاً ومتحفظاً في كلامه، وأتذكر في البداية أنه سألنا أنا وزميلتي عن حالتنا الوظيفية وبابتسامة عن طائفتنا بالضبط، وأعتقد أنه كان قد عرف قبل ذلك. وقد أحسسنا بمدى إحترامه وحبه للطوائف غير المسلمة. وقد فوجئنا ذات يوم بحضور راهبات بملابسهن المعروفة لزيارته، وعرفنا أنهن جاراته في السكن، وقد جلبن معهن تمثالاً للسيدة العذراء وعدد من الأيقونات، للبركة وهدية لسلامته، وقد سره ذلك وطلب من مرافقيه أن تنقل الى بيته .
ـ في الصحف اليومية كنا نشاهد آنذاك لقطات مصورة للزعيم وهو لدى استقبال زائريه أو في شرفة المستشفى يحيّ الجمهور الذي يحتشد كل يوم كي يراه، صفي لنا تلك الحالة ؟ ـ شاهدت بنفسي حب الناس له وسمعت أصوات الدعاء والأعجاب، وتكرر مشهد نحر الذبائح أمام المستشفى، وذات مرة جلبوا جملاً ونحروه ليوزعوا اللحوم الى الفقراء. وأتذكر أنه توجه الى الشرفة وهو ببيجامته وعليها الروب وبنعله فاقترحنا أن يلبس حذاءه عند خروجه الى الشرفة فأطاع دون تعليق .
ـ هل كانت عائلته تزوره أو الى جانبه كل الوقت؟ ـ كلا، وعلى ما يبدو لي أنه لم يكن يرغب ببقائهم، وزياراتهم كانت سريعة. وأتذكر أن إحدى شقيقاته في أول زيارة له، كانت غاضبة ومنفعلة لما حصل. وذكرت أمامه بأنها ستتولى قيادة تظاهرات وتحرك الشارع إحتجاجاً على تلك الجريمة، فانفعل بدوره ورفض بشدة هذا التوجه، بل طلب من مرافقيه ومقربيه مراقبة شقيقته كي لا تتدخل وأن لا يسمح لها بالخروج من البيت !
ـ ماذا كانت مكافأتكم من الزعيم عند مغادرته المستشفى؟ ـ كان قد إكتفى بإعطاءنا باجات فيها شعار الجمهورية، قدمها لنا بنفسه، ومن مرافقيه ساعات يد هدية تحمل صورته عليها .
ـ ما السبب الذي جعلك متوجسة وحذرة في هذا اللقاء رغم أن عقوداً قد مضت على تلك الفترة من تاريخ العراق ؟ ـ السبب ما عانيته فيما بعد... كان الاعلام المعادي خارج الحدود قد أشاع بهدف الاساءة لحكم عبد الكريم قاسم ولشخص الزعيم بالذات، بأنه قد طلب ممرضات روس، وانهن قد استقدمن من موسكو لتولي رعايته. وبالطبع كنت أنا وزميلتي المقصودتان وكلانا من أبناء الوطن، وترتب على ذلك لاحقاً، عندما حدث إنقلاب شباط عام 1963 وإستشهاد الزعيم. فقد أستدعيت من قبل الحرس القومي. وبحضور منذر الونداوي للتحقيق معي، وشاءت الصدفة أن أحد الجالسين جنبه كان له معرفة شخصية بالدكتور كمال السامرائي الذي كنت اعمل معه فأنقذني حينها. لكن المراقبة والمضايقة استمرت رغم أني وزميلتي غزالة ليست لدينا أي علاقة بالسياسة، وكنا نؤدي واجبنا الانساني وفق متطلبات المهنة وحسب، بدليل أن شاء القدر فيما بعد أن يطلب مني حضور عملية جراحية لرئيس الجمهورية عبد السلام عارف، وقد تعللت لمدير المستشفى بأنني في إجازة لكنه أصر على حضوري على أن أتمتع بالاجازة بعد إجراء العملية. فأي مصادفة تلك، وشتان بين هذا وذاك !
ـ الآن وبعد هذا العمر، وهذه الوحدة التي تلازمك في المهجر كل وقت، ما الذي تقولينه؟ ـ أقول أن العراق يعيش في داخلي ولا يفارقني، فهو وطني وذاكرتي. وكم اتمنى أن أعيش ما بقي لي من العمر كي أرى بنفسي استقراره وعافيته. ولا تنس أن تكتب ما كنت أتخوف ان أجهر به طيلة تلك العقود وهو حبي لتلك الشخصية التي خسرها الوطن. فقد رأيته بنفسي زاهداً ومتواضعاً ومخلصاً، ودعني أقول أنه أفضل من حكم العراق بعد الحكم الملكي !
*
اضافة التعليق