بغداد – العراق اليوم:
بعد عقود طوال من الرعب الذي احدثه جهاز المخابرات الصدامي سيء الصيت في نفوس العراقيين، حيث قلما تجد عراقياً عايش تلك الفترة داخل البلاد أو خارجها لا يحتفظ في ذاكرة قلبه بقصة مريعة نسجت بخيوط الأسى، من قبل جهاز وحشي صممه و"هندسه" الطاغية لخدمة أهدافه الشريرة، وتصفية خصومه السياسيين، أو المشكوك بولائهم، ومن ثم ترويع الناس، وتخويفهم من سطوة جهاز باطش، لا يرحم طفلاً ولا يوقر شيخاً ولا يحترم حرمة امرأة، جهاز كان يتوالى على إدارته أكثر رجال النظام بشاعةً وقسوةً وعنفاً، حتى أصبح الأكثر شهرةً في العالم من حيث تنكيله بالناس وقمعهم، ومتابعتهم الفظيعة، بل وإحصاء انفاسهم .
لقد اخترق جهاز المخابرات الصدامي بطريقة شريرة بطون المدارس والجامعات والاندية، وتلصص على بيوت الناس حتى صار يتسقط أي آهة أو آنة أو صرخة يصدرها مظلوم او مكلوم.!
سنوات طوال والجهاز جاثم على صدور العراقيين، بحيث كان مجرد ذكر إسم " الحاكمية" أو إسم المجرم برزان امامهم يشكل مصدر ازعاج وقلق نفسي لهم جميعاً، فكم ضاعت طاقات، وكم غيبت مواهب عراقية خلاقة، لا لشيء أنما لشك في ولائها، أو الرغبة في الاخافة، والقمع والترويع.
في قصص الجهاز المريع أرشيف كامل من القمع والبطش، وقد ذهب بعد التاسع من نيسان 2003 الى الأيادي الامريكية التي لم تكشف عنه لغاية الآن، لكن مطلعين عليه أكدوا أنه عبارة عن سجل لقصص واقعية، لكنها اغرب من الخيال، قصص مفجعة غير مكتوبة بعد، ولم يفكر أقسى وأكثر كتاب افلام الرعب خيالاً أن يكتب سيناريو مشابهاً له.
فمسؤولو جهاز مخابرات صدام وضباطه كانوا وحوشاً بشرية كاسرة تتلذذ بجثث الضحايا وتفطر على أصوات المتألمين، وتنهي يومها بقتلى لا حصر لهم!
من هذه الذاكرة المثخنة بالقمع والجراح كانت مراحل تأسيس جهاز مخابرات وطني عراقي بعد 2003 تبدو مستحيلة، فحتى كاتب هذه السطور، على إيمانه واطلاعه على اساليب وفائدة اجهزة المخابرات في العالم، لم يكن يستسيغ أن يعاد تشكيل جهاز بمثل هذا الاسم في العراق، لا لشيء الا لتلك الذاكرة المليئة بقصص الرعب والفواجع، لذا كان المؤسسون لهذا الجهاز يعملون منذ البداية على محاولة تغيير الصورة النمطية للجهاز، ومحو تلك الصورة السوداء عن ذاكرة الناس، وبدأ الجهاز يخطو خطواته البطيئة نوعاً ما، وحين تأسس على مبادئ جديدة، كنا نظن أنها ستكون حبراً على ورق، لكن الحقيقة كانت غير ذلك، فالسلوك المهني، وآليات تشكيل الجهاز كانت تسير بشكل مشهود، لاسيما وأن الدستور العراقي منع على الأجهزة الأمنية ممارسة أي نشاط سياسي، وحول الأجهزة برمتها الى خدمية للشعب فحسب، دون أن يعطي السلطة السياسية القائمة الحق في اخضاع الاجهزة لأجندتها السياسية مهما كانت.
وبرأينا فإن هذه الخطوة هي واحدة من اهم حسنات الدستور العراقي، حيث ساهمت وتساهم على الدوام في بناء عقلية أمنية قائمة على مبدأ الفصل ما بين هو سياسي وما هو أمني مهني، ومن ثم التحول بعقيدة الأجهزة الأمنية نحو كونها أجهزة شعب لا سلطة، وهذا بون شاسع، بين من كان يسخر الشعب والاجهزة كلها لخدمة نفسه واهدافه، وبين أجهزة تقول للحاكم أنها مع المحكوم، وتنحاز له إن انحرف الحاكم عن مسار الحياة الديمقراطية والتعددية وحرية الرأي وحقوق الانسان.
وحين شهد الجهاز تراجعًا في سنوات التذبذب والحرب مع داعش في بواكيرها، حسناً فعلت الحكومة بأن منحت ادارة الجهاز لشخصية عراقية كفؤة ومهنية، ذات باع طويل في العمل المعلوماتي المتخصص، وذات قدرات وكفاءة ثقافية مشهود لها، حيث تولى ادارة هذا الجهاز مصطفى الكاظمي، وقد بدأ السيد الكاظمي بإدارة مختلفة تماماً، ادارة قائمة على فهم أخر لطبيعة عمل هذه المؤسسة، فالكاظمي المثقف، والمطلع على الثقافات الانسانية المتنوعة، مؤمن أن المخابرات في أي بلد، أنما هي عقل استراتيجي يفكر للبلاد، ويخطط لمصلحة الشعب، ويرفد التجربة برؤية نهائية بعد أن تصله الرؤى المتقاطعة، وهو يفهم جيداً أن مسؤولية اي مخابرات في دولة ديمقراطية، هي صيانة الدولة، والنظام السياسي من الاختراقات التي تريد تدميره من الداخل، أو تريد تفكيك الجبهة الوطنية واللعب بمقدرات البلاد، والرجل يفهم أن دور الجهاز في البلاد يجب أن يأخذ موقعه وحقه في عملية بناء معادلات التكامل، وأن يوقف معاملات التفكيك الداخلي أن وجدت، وهو يفهم ايضاً أن الجهاز أهم سور مادي ومعنوي من اسوار الدفاع عن حياض الوطن، وصيانة استقرار شعبه ومواطنيه، ويدرك أن العمل في الجهاز يجب أن يقوم على مبادئ متساوية وواضحة، فالجهاز بقدر ما يرفض اساليب التجسس الدنيئة من بعض الدول، فهو ينأى بالعراق عن لعب هذه الأدوار المشبوهة، ويدفع الى أن تسهم الدبلوماسية العراقية في مد جسور المحبة والألفة وردم الهوات التي قد تستخدم في اختراق البنى الوطنية، كما يعرف الكاظمي أن مهمة الجهاز ليست محصورة بحماية رأس النظام السياسي طبعاً، مع أهميتها في دولة ديمقراطية، لكنه يعرف أن المهمة الأكبر هي في حماية الانسان العراقي ككل، سواء اكان في موقع المسؤولية الوطنية أو خارجها، في اطار الجغرافية العراقية أو في خارجها.
إن الكاظمي القادم من عقلية متحررة من كل عقد وأوهام السلطة، والمنطلق من مبادئ لا يحيد عنها في احترام التعددية السياسية، وتقديس عقيدة الرأي والرأي المختلف، والمتمسك بمنهج حقوق الانسان كخيار يقيني لا يمكن التراجع عنه تحت أي ضغط، قد عمل خلال فترة وجيزة على تقديم هذه الرؤية وترجمتها الى عمل حقيقي، فنجح كثيراً في بلورته، حتى أصبح الجهاز مثار اعجاب ومحط تعاون الكثير من اجهزة الدولة المناظرة للعراق، وأصبح جهاز المخابرات العراقي يحظى بدعم اقليمي ودولي غير مسبوق.
ومع أهمية هذا الدعم الا أن الاهم أن الجهاز أصبح يحظى بدعم ورصيد شعبي عراقي هائل، وأصبحت فروعه المنتشرة مبعث أمن واطمئنان للمواطن البسيط، بعد أن كانت تبعث الرعب في القلوب، وتثير المواجع حين تذكر امام شخص.
نعم فقد نجح الكاظمي وفريق ادارته في محو تلك الصورة السيئة، وعزز رصيد نجاحات الجهاز على المستوى الاقليمي والدولي بعمليات نوعية كبرى، ولعل الحرب على داعش قد كشفت بعض اسرار عمل الجهاز الأمني في مجال مكافحة الأرهاب وتعزيز دور القوات الأمنية في جبهات القتال من خلال توفير "داتا" كاملة عن الأرهاب ومنابعه ومصادره وطريقة تحركه.
لقد اسس الرجل بقدراته الذاتية نجاحات ملحوظة، ولا يزال يكمل مسيرة استراتيجية ناجحة رسمها بإتقان، فالرجل لم يكن ناجحاً في مجال عمله الامين فحسب، إنما بات صاحب مشروع وطني ناصع، ومؤسس لمنهج أمنى وسياسي واخلاقي جديد في الساحة المخابراتية في المنطقة برمتها، فالمجرب المؤسس لمشروع وطني يجب ان يكمل تجربته، ويمضي بمشروعه ومنجزه الخلاق الى حيث تكتمل الملامح، وتتضح الرؤى النهائية للمشروع، حتى يغدو درساً في كتاب المنهج الوطني والإبداعي. وبرأيي فإن المرجعية الشريفة تريد هكذا (مجربين) نافعين، ليجرّبوا مرة اخرى، وليس العكس.
ختاماً نقول اننا الان امام استحقاق وطني، ونقصد به تعيين رئيس حكومة قوي وحازم، وكابينة وزارية يجب ان تضم مرشحين نزهاء، حضاريين ووطنيين، ومجددين، لهم ماض وحاضر شريف، وعليه فأن التعويل على الناجحين من اصحاب التجارب الفاعلة والمؤثرة سيكون اكسير الخلاص، كالسيد قاسم الاعرجي، او مصطفى الكاظمي، أو طالب شغاتي، لذا يتوجب الإبقاء على مصطفى الكاظمي مثلما يتوجب الابقاء على الاعرجي وامثاله في مناصبهم، فالكاظمي قلب بحق مفاهيم الامن والمخابرات وحولها من معنى بوليسي قمعي احادي، الى معانٍ انسانية وقيمية واخلاقية، فلأول مرة نجد شباباً يرتدون بدلات أنيقة وأربطة عنق ملونة، ووجوه باسمة بشوشة ممتلئة بالود والحبور، يستقبلونك عند قاعة الوصول او المغادرة في مطار بغداد، فتفرح كثيراً حين تعرف انهم اخوة وابناء وتلامذة مصطفى الكاظمي في جهاز المخابرات ..
لقد نجح الكاظمي في انجاز وتحقيق شيء كان قد فشل في تحقيقه رؤساء أعظم الاجهزة المخابراتية في العالم، واقصد بهذا (الشيء)، احترام الخصم، وتطبيق القانون دون المساس بآدمية المتهم، واحترام حقوقه مهما كان ذنبه، وذلك ما نحتاجه ونطمح اليه على الدوام، نتمنى أن تتراكم نجاحاتنا، ونتجاوز عقدة محاربة الناجح، ومحاولة تكسير مجاذيفه التي هي مجاذيف الوطن واجنحته التي تساعده في الطيران في فضاء التطور والحرية والامان.