بغداد- العراق اليوم:
بعد فشل التجربة الدبلوماسية السعودية بسحب السفير السبهان، والإساءة المتعمدة لصحيفة الشرق الأوسط السعودية بحق العراقيين، يأتي الإعلام التضليلي والمغرض في حرب العراق ضد داعش كفشل سعودي ثالث في التعاطي مع العراق. السؤال الذي يطرح نفسه: مع الإصرار السعودي على التعامل مع العراق وفق منطق الطائفية السياسية والإعلام المضاد والاختراق الأمني والسياسي، تُرى هل يمكن للسعودية اعتماد مقاربة مغايرة وسياسة واقعية جديدة تجاه العراق أم ستبقى السعودية رهينة العُقد التاريخية التي ميزت سياستها تجاه العراق منذ تأسيسه وحتى الآن؟ السعودية اقليمياً ليس هناك من تطور حقيقي في العلاقات السعودية العراقية، وفي تصوري لم تحن اللحظة التاريخية لبدء صفحة جديدة في العلاقات السعودية العراقية رغم المتغيرات الهائلة في منطقة الشرق الأوسط سواء على صعيد تغيير أنظمة سياسية عتيدة أو تنامي نفوذ وسيطرة الجماعات الإرهابية التي تهدد بابتلاع المنطقة أو في تنامي الاحتكاك بين الستراتيجيات الإقليمية الكبرى. عربياً، كان للسعودية الدور المباشر بالتغيرات الكبرى التي طالت بنية أكثر من دولة وإعادة رسم خارطة انظمتها السياسية. لقد تمثلت السياسة السعودية بتحييد العراق وسوريا من خلال إغراقهما داخلياً، وسعت لاحتواء ثقل مصر مالياً،.. وبغض النظر عن خصوصية الموقف العماني والقطري فإنَّ السعودية أتمت ابتلاعها لمجلس التعاون الخليجي كقرار ومنطقة نفوذ، واندفعت بقوة لإعادة إنتاج الواقع السياسي اليمني عسكرياً،.. هذه الأرقام تعد مؤشراً لمحاولات سعودية لقيادة المنطقة العربية ستراتيجياً مدعومة باقتصاد من العيار الثقيل وتفاهمات نوعية مع مراكز القرار الدولي لرسم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة. حالياً، ليس للبوصلة السعودية من عداء واضح لأي من ستراتيجيات المنطقة سوى الستراتيجية الإيرانية، فالستراتيجيتان السعودية والإيرانية تقودان اللعبة حالياً (مع دور تركي قطري آخذ بالإنحسار تدريجياً)، وتتنازعان النفوذ شرق أوسطياً.. لذا فمؤشرات تصاعد وتيرة الصراع السعودي الإيراني آخذة بالازدياد أكثر من أي وقت مضى، وستكون أكثر من ساحة نقطة اصطدام لكلا الستراتيجيتين (سوريا والعراق واليمن تحديداً).
السعودية تخشى العراق على المدى الوجودي الستراتيجي فإنَّ السعودية لا تخشى انبعاث دولة كخشيتها من انبعاث العراق، فالعراق هو المنافس والمعادل الستراتيجي الذي ينافس السعودية بالصميم أكثر من أية دولة شرق أوسطية. وأتصور، أنَّ السياسة السعودية أدركت منذ البدء أن منافسها الإقليمي هو العراق تحديداً وليس إيران التي يمكن للسعودية عزلها قومياً ومذهبياً، أو مصر التي يمكن للسعودية احتواؤها اقتصادياً واختراقها مذهبياً، أو تركيا التي يمكن للسعودية عزلها قومياً وتاريخياً،.. العراق بنظر السعودية هو المشكلة والخطر الستراتيجي بسبب تركيبته القومية الدينية المذهبية التي ترى فيها السعودية نقيضاً لشرعيتها الوهابية التي تحكم باسمها، ولموارده الطبيعية واحتياطه النفطي الهائل الذي ينافس السعودية اقتصادياً، ولكتلته الحضارية والثقافية النوعية، ولموقعه الستراتيجي الرابط بين العالمين العربي-الإسلامي الأوروبي، لذا فمؤسس المملكة العربية السعودية لم يحذر أبناءه من خطر دولة كما العراق، لذا أوصى بحرب العراق.
المسار العام للعلاقات السعودية العراقية لا يمكن وصف العلاقات العراقية السعودية بأقل من كونها حذرة متوترة وعدائية منذ نشوء الدولتين الحديثتين في بدايات القرن المنصرم وحتى هذا اليوم،.. لقد افتتحت العلاقات بالغارات التي كانت تشنها المليشيات الوهابية على العراق والتي كانت جزءا من توسيع نفوذ المملكة السعودية على حساب الأراضي العراقية.. استمر ذلك حتى معاهدة 1922 التي تمت بوساطة بريطانية والتي وضعت حداً للغارات السعودية على العراق، والتي وافق عليها العراق رغم إجحافها البيّن. مع استقرار بنية الدولتين دخل الصراع مرحلة جديدة، إذ وجد العراق نفسه في خضم الصراع بين العائلتين الحاكمتين السعودية والهاشمية اللتين تتنازعان الزعامة على شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق (يجب ألا ننسى هنا دعوة ولي العهد العراقي عبد الإله في الخمسينات من القرن المنصرم التي دعا فيها الى شكل ملكي للقومية العربية كحل لتمزق الأمة العربية.. في إشارة واضحة منه الى بسط نفوذ العائلة الملكية الهاشمية على حساب نفوذ العائلة السعودية التي تمتلك حساسية كبرى تجاه القول بشرعية العائلة الهاشمية بعرش العرب). استمر الحذر والتوجس يسودان العلاقات العراقية السعودية حتى دخول العراق العهد الجمهوري 1958، ولم تشهد العلاقات تطوراً ملحوظاً إلا في سبعينيات القرن الماضي من خلال ترسيم حدود المنطقة المحايدة بين السعودية والعراق وتقاسم ايراداتها النفطية والتي جاءت لصالح السعودية مرةً أخرى. مع انتصار الثورة في ايران 1979 تحركت السعودية اقليميا باتجاهين: الأول تأسيس مجلس التعاون الخليجي 1981 لتحصين الساحة الخليجية تجاه النفوذ الإيراني، والثاني، دفع العراق لخوض الحرب مع إيران،.. وبذلك استطاعت السعودية كسب ثلاث نقاط إقليمياً: احتواء الخليج تحت مظلتها الستراتيجية، إلهاء وإضعاف العراق كقوة ستراتيجية، ومحاصرة واحتواء التأثيرات الإيرانية إقليمياً. والملاحظ –عراقياً هنا – أن السعودية في الوقت الذي كانت تساند نظام صدام حسين في حربه ضد إيران بشكل مطلق إلاّ أنها لم تسمح له بالانضمام الى مجلس التعاون الخليجي، وهي قراءة ستراتيجية لمستقبل العراق الذي يجب ألا يكون منافساً ستراتيجيا للسعودية إقليمياً تحت أي ظرف كان. مع سقوط الدكتاتورية في 2003، قرأت السعودية وصول الشيعة للحكم في العراق على أنه إخلال ستراتيجي للتوازن في المنطقة، وأنه اختراق لطبيعة النظام السياسي العربي الذي تشكّل السعودية ثقله الأكبر، وأنه يوسع من دائرة النفوذ الشيعي إقليمياً، ورسمت سياستها على هذا الأساس، وظلت الحجة السعودية بطائفية النظام الجديد ثابتة لم تتزحزح في نظرتها وسياستها للتحول السياسي في العراق، ولم تبادر لمساعدته في إعادة إنتاج نفسه، ولم تقدم على خطوات ايجابية حقيقية تجاه العراق حتى في مساندته في المحافل العربية والدولية أو حتى في إسقاط ديونها امتثالاً للدورة (126) لوزراء الخارجية العرب في القاهرة، الذي نص في بند العراق على فقرة خاصة بديونه، وهي: (التأكيد على سرعة قيام الدول الاعضاء بإلغاء ديونها المترتبة على العراق تنفيذا للفقرة (15) من قرار قمة الخرطوم رقم (340) بتاريخ 29 / 3 / 2006).
السعودية رهينة العقد التاريخية قامت السعودية الحديثة – وبرعاية انكليزية – على المزاوجة بين عائلة آل سعود والمذهب الوهابي، واشتغلت على العامل الديني المذهبي كركن أساس في تركيبة المملكة وبقائها وسياساتها، وعلى هذا الأساس أنفقت السعودية مليارات الدولارات لتدعيم نفوذها الديني/ المذهبي كزعيمة للعالم الإسلامي. إن المذهب والنفط أهم عاملين لا يقبلان التنافس سعودياً، فهما في طليعة ركائز الحكم والنفوذ، من هنا ساهمت السعودية بإضعاف أغلب مراكز الثقل الديني في العالم السني (الأزهر مثلاً) لحساب المذهب الوهابي واستثمرت النفط كأداة لتسويق المذهب، والمذهب كأداة لتسويق النفوذ والهيمنة الستراتيجية. وقد نشرت مجلة (ميدل ايست مونيتر-MidEast Monitor ( عدد يونيو – يوليو 2007 دراسة أكاديمية موثقة ومهمة للسفير الأميركي السابق لدى كوستريكا (كورتين وينزر). يورد (وينزر) على لسان (اليكسي اليكسيف) أثناء جلسة الاستماع أمام لجنة العدل التابعة لمجلس الشيوخ في 26 يونيو 2003 بأن «السعودية أنفقت 87 بليون دولار خلال العقدين الماضيين لنشر الوهابية في العالم»، وأنه يعتقد أن مستوى التمويل قد ارتفع في العامين الماضيين نظرا لارتفاع أسعار النفط . ويجري (وينزر) مقارنة بين هذا المستوى من الإنفاق بما أنفقه الحزب الشيوعي السوفيتي لنشر أيديولوجيته في العالم بين 1921 و1991 حيث لم يتجاوز الـ 7 بليون دولار. عراقياً، فالسعودية ترى في التركيبة المذهبية/ العربية الشيعية السنية تهديداً لشرعيتها المذهبية، فمذاهب التشيع والشافعية والحنفية هي السائدة عراقياً على حساب المذهب الحنبلي الذي تعتمده المدرسة الوهابية السعودية، وهو أمر يضر بوضعها الداخلي وزعامتها الدينية، وتخشى من تأثيراته على البنية الداخلية للسعودية كشعب متنوع مذهبياً، وترى فيه ايضاً منافساً على مستوى مساحة زعامتها للعرب والمسلمين،.. لذا فأحد أوجه المواجهة السعودية مع التحول السياسي في العراق 2003 تمثّل بإسقاط شرعيته من خلال توظيف الإختلاف المذهبي الشيعي السني من جهة ومن جهة أخرى محاولة مد نفوذ المدرسة الوهابية لإحتواء التنوع السني المذهبي، لضمان التفرد بالزعامة الدينية عربياً دونما منازع. نفطياً، فالعراق معادل نفطي للسعودية، إذ يبلغ احتياط النفط العراقي حوالي 10.7 % من إجمالي الاحتياطي العالمي، الإحتياطي المؤكد نحو 112 مليار برميل، ونسبة 80 % من نفط العراق ما تزال غير مؤكدة، ويقدر الاحتياطي غير المؤكد بحدود 360 مليار برميل (أربعة أضعاف الاحتياطي النفطي الأميركي). ويمتاز النفط العراقي بوجود جميع حقوله في اليابسة، لذلك فتكاليف إنتاجه تعد الأقل في العالم إذ تتراوح بين 0.95 و1.9 دولار للبرميل الواحد، مقارنة بكلفة إنتاج البرميل في بحر الشمال التي تصل إلى عشرة دولارات. وفي العراق جميع أنواع النفط من خفيف ومتوسط وثقيل، إضافة الى خبرات وكوادر نفطية مشهود لها عالمياً. بروز العراق كقوة نفطية سواء على مستوى الإنتاج أم الصناعات النفطية سيزعزع الهيمنة والنفوذ السعودي على المستويات كافة، على المستوى الداخلي كون الإقتصاد السعودي اقتصاد ريعي، وعلى المستوى الإقليمي كون الزعامة السياسية تقوم على النفوذ المالي المتأتي من إيرادت النفط، وعلى المستوى الدولي من خلال تضرر مكانتها كزعيمة نفطية كبرى قادرة على فرض رؤيتها في العديد من الملفات الدولية. على مستوى الثقل الحضاري، فللعراق ثقل حضاري نوعي يرشحه للعب دور ستراتيجي لا يمكن للسعودية منافسته بحال، فعمقه التاريخي الضارب بالقدم، وإرثه الحضاري، ومخزونه الإبداعي الفني والثقافي، وموقعه الجغرافي، وموارده الطبيعية… كلها عوامل قوة تفتقدها السعودية في ميزان الثقل الحضاري الستراتيجي إقليمياً ودولياً. إن ثلاثي: التركيبة العرقية / المذهبية والنفط والثقل الحضاري محددات السياسة السعودية تجاه العراق بغض النظر عن طبيعة الدولة ونوع الحكم في العراق، إنها محددات تنافس على الوجود والنفوذ والتأثير الستراتيجي التي تقبل المرونة هنا وهناك ولكنها لا تقبل التنازل بالمجمل.
السياسة السعودية تجاه العراق مارست السعودية سياسة غامضة مشوبة بالتصعيد ضد التحول السياسي في العراق منذ 2003، ودخلت بقوة على الخط السياسي الطائفي والأمني الشائك. لقد سارت السياسة السعودية بخطين متوازيين على الساحة العراقية، الأول محاولة إعادة إنتاج الدولة العراقية التقليدية التي انهارت في 2003 كهدف بعيد المدى، وثانياً الحفاظ على التوافق العرقي الطائفي كحل مؤقت لضمان بقاء نفوذها وتأثيرها المذهبي-السياسي في العراق. مع التغيرات الجيوسياسية في المنطقة، من المرجح استمرار السياسة السعودية باتجاهين، الأول: تدعيم نفوذها في العراق مع ضمان بقاء التجربة العراقية قلقة غير مستقرة على صعيد بنية الدولة. والثاني: تسريع ستراتيجيتها بفك المحور الإيراني – السوري – اللبناني من خلال اسقاط النظام السياسي في سوريا وتحويلها الى كتلة سياسية موالية للسعودية لمعادلة الكتلة السياسية العراقية. هناك اتجاه آخر يحتاج الى تغيير نوعي بالرؤية الستراتيجية السعودية تجاه العراق المحكومة الى هذه اللحظة بالعُقد الثلاث، هي: مساعدة العراق على خلق نموذج دولة التوازن الستراتيجي القادر على إعادة التوازن والإتزان لمنطقة الشرق الأوسط باعتباره الحاجز الجيومجتمعي والجيوسياسي بين أمم سيادية ثلاث هي العربية والإيرانية والتركية.
دولة التوازن الستراتيجي يقع العراق حالياً تحت منخفض جيوستراتيجي سعودي إيراني تركي، بسبب بنيته الهشة وانقسامه العرقطائفي وتفشي الإرهاب والفوضى واختلاف رؤى وارادات النخب السياسية الحاكمة لإعادة إنتاجه كدولة. ومع بقاء هذا الوضع على ما هو عليه فإنّ أي حديث عن خيار عراقي يحدد السياسة الستراتيجية تجاه الستراتيجيات الإقليمية هو محض خيال. أعود وأكرر هنا، أن اللحظة التاريخية الحالية تضع الجميع أمام اختيارات واختبارات بقاء الدولة العراقية أو انهيارها وابتلاعها من قبل نظام الفوضى أو أجندات الستراتيجيات الكبرى،.. وأدنى نظرة ستراتيجية سليمة لمستقبل المنطقة والعالم تفيد بضرورة التأسيس لـ (دولة التوازن الستراتيجي): وهو نموذج الدولة العراقية اللاعبة لدور التوازن الإقليمي الفعال، بما يؤهل العراق ليكون قوة استرتيجية رابعة فاصلة وموازنة للستراتيجيات الإقليمية الكبرى. إنّ التوازن الفعال يعني (دولة عراقية وطنية مدنية قوية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً قادرة على حفظ التوازن الإيجابي بين ستراتيجيات المنطقة)، وبخلاف ذلك فإن طوفان الإنهيارات والكوارث الطائفية والسياسية العراقية ستجرف المنطقة برمتها، وستكون أولى ضحاياها الدول المجاورة للعراق.