وهذا ما نشهده في سوريا والعراق، وهو ما سيؤدي حتماً إلى فوضى عارمة، لن تقف تداعياتها عند حدود المنطقة، وانما ستؤدي في مرحلة لاحقة ليست بعيدة إلى تهديد السلم العالمي برمته. تبشرنا دوائر المخابرات الغربية، بأن الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة، وأن خريطة المنطقة ستكون مختلفة عن تلك التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية، وأن الشرق الأوسط المقبل سيكون حتماً مختلفاً عن الشرق الأوسط ما بعد الحرب العالمية الثانية. فيما يسعى سياسيو الغرب لرسم حدود جديدة تأخذ بالاعتبار حجوم اللاجئين، الذين اضطرتهم ظروف الحروب الطائفية، وسيطرة الدواعش على بعض المناطق في سوريا والعراق، للانتقال من محال سكنهم إلى مناطق آمنة في دول مجاورة كالاردن ولبنان، وحتى إلى تركيا التي استقبلتهم لتنغمس أكثر في اللعبة الدولية الدائرة اليوم حول المنطقة، وهي أي تركيا لاتخفي مطامعها التوسعية، بعد إعلان السلطان العثماني أردوغان أن اتفاقية لوزان سقطت، فيما تقدمت قواته داخل الحدود السورية لتسيطر على أكثر من ألفي كلم2. بعد سماحه بدخول الدواعش إلى سوريا، لإنشاء خلافة مزعومة سيحاربها لاحقاً، وعينه على مواجهة القوى الكردية الناهضة، وهو يدرك جيدا أن الاقتصاد التركي يحتاج إلى مزيد من النفط، الذي يكلف استيراده الخزينة التركية حوالي 7 مليارات دولار سنوياً، وهذا ما يدفعه لمحاولة التوسع جنوبا على حساب الدولتين السورية والعراقية ليؤمن حاجات بلاده النفطية من جهة، وليأخذ دور الزعيم الديني بمزاعم حمايته للوجود السني من التمدد الشيعي المدعوم إيرانياً، والزعيم القومي بحمايته للأقليات التركمانية، من جهة ثانية، مستعيداً أمجاد آل عثمان التي عفى عليها الزمن، وهو يؤكد عزم تركيا على احتلال شمال سوريا وشمال العراق، متجاهلاً ما سينتج عن ذلك في دولته التي يشكل العلويون ثلث سكانها، بينما عدد أكرادها لا يقل عن 17 مليون نسمة. من الناحية الثانية نلاحظ دور إيران الديني والقومي، وهي تعمل على إنشاء منظومة إقليمية تخدم مصالحها، وحيث أن ولاية الفقيه تعتبر أن المسلمين أمة واحدة، فإنها بالضرورة تستبعد عامل القومية، ولذلك تعتبر أن من واجبها اتباع سياسات لتحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية للعالم الإسلامي، وهنا تكون حدود الدول مصطنعة، والأنظمة القائمة غير شرعية، ولا بد من القضاء عليها، وهي مستعدة للقتال وتقديم الضحايا لتحقيق هذا الهدف، وفي موازاة ذلك يبرز الدور السعودي من خلال رعايته «التكفيريين»، قبل أن ينقلب السحر على الساحر، مع ولادة داعش بمنظومتها الفكرية المناهضة للشيعة، عقب ما حدث من تحولات في العراق وسوريا، واشتعال المنطقة بلهيب الطائفية التي أبرزتها داعش كأبشع ما يكون، وإلى حد تفوق الانتماء الطائفي على الوطني، وحتى على الديني، وكأن كل هذا يأتي لخدمة المشروع الصهيوني ويهودية الدولة. وهنا أيضاً يبرز دور الكرد، وهم يشهرون مظلوميتهم بعدم إنشاء وطن قومي لهم، وتوزيع أمتهم على أربع دول، ويشعرون بأن الوقت قد حان للتخلص من هذا الواقع، أقله في العراق، حيث تبدو الفرصة مناسبة بعد أعوام من الحكم الذاتي، وهم اليوم وخلال المعركة المحتدمة قريباً من مناطقهم، يرسمون حدوداً جديدة بالدم، حسب تعبير مسعود بارزاني، وربما تكون ولادة الدولة الكردية العتيدة، الخطوة الأولى في إعادة رسم خريطة المنطقة. ظل العرب يجأرون بالشكوى من اتفاقية سايكس بيكو وظلمها، لكنهم اليوم يستبسلون في الدفاع عن حدودها «المصطنعة»، وما أنتجته من دول، لأن ما يُرسم للمنطقة، وينفذ على أيدي أعداء شعوبها تحت مسميات شتى، سيفضي إن تحقق إلى مزيد من التقسيم الذي ستكون إسرائيل المستفيد الأول منه، بينما تنهش دول الجوار القوية أطرافه، فيما يتلهى بعض حكامنا بالصراعات البينية على زعامة فارغة من المضمون للمنطقة، ويسعى آخرون لتأمين مستقبلهم وهم واثقون أن الزمان تخطى مرحلتهم، وهم يلعبون الآن في الوقت الضائع، والمدهش والمثير للأسى أن هناك من يتحدث عن قومية واحدة لشعوب المنطقة.