كيف ينتقل المجاهد المعارض الى رجل دولة .. وزير الداخلية أنموذجاً !

بغداد- العراق اليوم:

واحدة من اشكاليات ما بعد التغيير في العراق، ان الكثير من الذين تصدوا للمسؤولية في البلاد بقوا يفكرون بذات العقلية المعارضة، ولم يستطيعوا ان يستوعبوا، او يدركوا  أن مرحلة الدولة، تختلف عن مرحلة المعارضة، وإن لكل زمان دوره، ولكل مكان وظيفته، ولذا جاءت الكثير من القرارات الهامة في البلاد، عشوائية او انفعالية محملة بالكثير من ارهاصات المعارض الذي لا يريد الا الانتقاد، ولا يفكر الا بالتقويض، ولا يبحث الا عن التصادم مع الآخر، مهما كان هذا الآخر.

قد تكون هذه المرحلة، تكاد تكون حتمية، فالمعارضة الوطنية العراقية حالة خاصة من المعارضات التي لم تتح لها فرصة العمل في الساحة السياسية داخل العراق، بل كانت تواجه آلة قمع واغتيالات وذبح لم يشهدها التاريخ السياسي من قبل، ولا نظن انها ستتكرر في يوما ما. ولذا لم تتح لها (أي المعارضة) تهيئة، وإعداد رجال سياسة وادارة، بقدر ما أعدت كوادراً مستعدة للشهادة، والتضحية في أية لحظة يتطلبها اسقاط الدكتاتورية.

ولذا جاءت تجربة الحكم بإعتراف العديد من قادتها، فقيرة في الجانب الاداري والتنظيمي، وفي بناء الدولة، ونحن نعذر هؤلا القادة،  فنظام صدام لم يكن يسمح بنشوء أي قوى سياسية فاعلة، ولا يوافق على بناء كوادر أدارية عليا، مالم تكن جزءًا من منظومته الأمنية القمعية، بل تعدى الامر  مفصل الإدارة الى مفاصل الثقافة والعلوم، وفي ذلك حديث ذو شجون.

لقد عاب الكثيرون على الحكم الجديد، لاسيما تجربة الاسلاميين العراقيين في الحكم، على أنهم لم يكونوا قد استوعبوا الدروس من ادارة الدولة، بل أنهم اكتفوا بحمل بنادقهم لمقارعة الديكتاتورية دون ان يحلموا باللحظة التي سيصلون فيها الى كراسي الحكم.

ولعل في الكلام جانباً من الصحة، لكنها في واقع الحال ظالمة ومجحفة، فمن اقترب من واقع الحركة الاسلامية السياسية وغيرها، سيجد انها بالفعل كانت تعد رجالها للقتال وحمل البنادق، لكنها في الحقيقة كانت تدافع عن حقها وحق الشعب العراقي في الوجود لا أكثر، وكانت تعرف أن النظام الذي جثم على الصدور لن يزاح بغير قوة مفرطة تقتلعه من جذوره الفاسدة التي لوثت التربة الوطنية، فكيف يمكن لها ان تبني كادراً سياسياً وادارياً وان تخوض معركة استنزاف طويلة ومعقدة كتلك.

لكن انتقادات المنتقدين، لم تتوقف عند هذا الحد، بل راحت تتهم المعارضين بأنهم اقصائيين، ثأريين، لم يستطيعوا ضبط عواطفهم، ومشاعرهم، وحولوا السلطة لاداة انتقام من خصومهم، وهي فرية كبيرة، وقد تكون هناك بعض الترتيبات والاجراءات التي كانت كفيلة بحماية النظام الجديد في البلاد من مكر اذناب البعث ونظامه المنهار، وقد وضعت على يد الحاكم المدني بول بريمر ذاته، أي قبل وصول اولئك المعارضين للسلطة بسنوات.

مع ذلك، بقي الاسلاميون ومن معهم في السلطة، يخافون من التعامل مع ملفات معينة، ومن معالجتها خوفاً من الماكنة الاعلامية التي يمتلكها الاخر ضدهم، ويحاولون بشتى الوسائل اتقاء تلك السهام، سواء اكانت من الاعداء، أو حتى من الاصدقاء.

وللأمانة، وللتاريخ، فقد كان هناك بعض المجاهدين والمناضلين الذين قاوموا نظام صدام، يحملون فكراً ، ورؤى وتطلعات قريبة من افكار ورؤى وتطلعات رجل الدولة، لكن فرص تطبيق هذه الأفكار كانت شحيحة، وظل هؤلاء المتطلعون ينتظرون الفرص الحقيقية لإثبات قدراتهم التنظيمية، ويؤكدون جدارتهم كثوار مقاومين، وكرجال  دولة ايضاً، حتى جاءت الفرصة لإحدهم حين رشح لمنصب وزير  في حكومة العبادي الحالية، فبوصول قاسم الاعرجي الى منصب وزير الداخلية، وهو منصب حساس، وفاعل وحيوي، باتت شريحة الشباب المقاوم و المعارض لنظام صدام تحت المجهر، فهل سينجح هؤلاء في تطبيق افكارهم ورؤاهم المدنية والتنظيمية والأدارية أم انهم نسخة مكررة من رفاقهم واخوانهم المعارضين الاسلاميين الذين سبقوهم في قيادة الدولة منذ سقوط نظام صدام حتى هذه اللحظة، والذين فشلوا في بناء دولة مدنية حديثة.. لذلك كان الإمتحان للفتى قاسم الأعرجي صعباً وقاسياً، فهو قادم من تاريخ وجغرافية وثقافة مقاومة، كما ان منصبه كوزير لوزارة امنية كبيرة وفاعلة مثل وزارة الداخلية يتطلب منه حزماً ثورياً، وبأساً صلباً لا يلين. ناهيك عن المرحلة الحساسة والخطيرة التي قذف بها الاعرجي لهذا المنصب، لا تتحمل التساهل، والتعامل الديمقراطي المبالغ فيه، فداعش يحتل اراض عراقية واسعة، والأمن الداخلي مضطرب، حيث تتقاذفه ظروف وأحوال عجيبة وغريبة، بعضها سياسية، وبعضها اقتصادية، وطائفية، واجتماعية، بل ان بعضاً منها هو  من صناعة ابناء وشركاء في مؤسسة الحكم ذاتها، لذا فإن وزيراً يتعامل مع 38 مليون نسمة عراقي، بل ويمكن القول انه يتعامل أمنياً مع 7 مليار نسمة اذا لم نبالغ، فالعراق جزء من منظومة كونية عالمية، يتأثر ويؤثر في محيطه العالمي ككل، وبالتالي فهو لايملك مساحة واسعة للتحرك، ولا يملك هامشاً يطبق فيه افكاره ورؤاه المدنية التي نمت وكبرت مع رؤاه وعقيدته الإسلامية المقاومة جنباً الى جنب.

ولعل تجربة داعش تثبت صحة ما نقول حين نتحدث عن الترابط الكوني بين الأمن العراقي والأمن العالمي، بدليل ان العراقيين واجهوا مرتزقة داعش القادمين من اكثر من 120 جنسية اجنبية، وتلك هي الحرب الكونية المقصودة، والتي تقع على الاعرجي مسؤولية حماية بعض مفاصلها.

ولكن، رغم هذه الظروف العسيرة، والتضاريس المحلية الشائكة، فقد أبى الأعرجي الا ان يستغل الفرصة، ويؤكد فيها ان الثوار المقاومين، والمعارضين الاسلاميين وغير الاسلاميين لقادرون على ادارة الدولة، وعلى تقديم نموذج اداري وتنظيمي عصري وحضاري وديمقراطي مختلف عن السائد. وهكذا نجح في ان يضع بصماته في ملفات شائكة وصعبة، فمثلاً نجد  الرجل الذي عرف عنه عداءه الشديد للبعث الصدامي، رفض في غمرة المعارك تنفيذ قرار اقصاء عدد من ضباط الداخلية ممن كانوا اعضاءًا في حزب البعث المنحل، وكان قراره صائبًا وجريئًا، فهل يعقل أن تقصي ضباطاً يخوضون المواجهة مع داعش، وقد ينالوا شرف الشهادة في أية لحظة في تلك المواجهة، فكان هذا القرار حافزاً هائلاً في رفع معنويات المقاتلين وخصوصاً من القيادات الأمنية في الجبهة.

وشكل القرار، مفاجأة ولطمة قوية لكل الافواه التي كانت تولول بأن الاعرجي سيمارس سياسة تطهيرية في الوزارة، وأنه جاء ليقصي كل من له علاقة بالنظام البائد، وهكذا، فأن مثل هذا التصرف الذي يعتبر اقصى درجات عقلية رجل الدولة الاداري الذي يتجاوز عقد السياسة، ولا يبالي بما يقوله المخالفون والمغرضون.

ولم يتوقف الأعرجي عند هذا الحد، فقد  اتجه مباشرةً الى حل مشكلة عوائل البعثيين، سواءاً من بقي منهم داخل العراق أو خارجه، احياءًا وامواتاً، فأمر لهم بصرف كافة المستمسكات الثبوتية، ومنع حرمانهم من أي حق اساسي يستحقونه، فاذا كان اباؤهم او ممن لهم بهم صلة قد اجرموا، فأن هولاء لا ذنب لهم، والقرابة ليست سببًا لتجريم الانسان، أو منعه من مباشرة حقوقه المدنية كافة.

لقد كان وعي وفهم الاعرجي المتقدم نقطة تحول في أداء وزارة الداخلية  وايذاناً بمرحلة اخرى في تقبل العراقيين لمنصب وزير الداخلية المتحضر المدني الذي يفكر بهذه الطريقة، ويعلي منها شأن المواطنة على كل شأن، لذا شكل حضور الاعرجي في كابينة العبادي بطاقة رابحة لكل القوى الاسلامية السياسية التي يحق لها القول أنها قدمت انموذجاً يحتذى به لرجل الدولة الذي يستطيع تجاوز كل عقد الأمس، ويمضي نحو المهام الصعبة بكل شجاعة وأقدام .

علق هنا