فارس كمال نظمي
تم الإعلان في بغداد عن تأسيس "حزب الاستقامة الوطني" بوصفه حزباً تكنوقراطياً مستقلاً مدعوماً من التيار الصدري. وقبله بأسابيع تم الإعلان عن تحالف القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم) المؤلف من أحزاب مدنية متعددة التوجهات الفكرية يقف في مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي.
وامتداداً للتنسيق الميداني المتحقق فعلاً بين الصدريين والمدنيين في ساحات الاحتجاج طوال العامين والنصف المنصرمة، برز اليوم بالضرورة تقارب سياسي بين (تقدم) و(استقامة) لإيجاد مسارات تنسيقية في الأفق الانتخابي القادم (برلمانياً ومحلياً). إلا أن طبيعة هذا التقارب ومدياته وآلياته وغاياته ما تزال تخضع لحوار غير محسوم بين الطرفين، وداخل كل طرف أيضاً. فالبعض يعلن صراحة عن نزعة شكوكية وتطيّرية -ليست جديدة- من هذا التقارب، والبعض الآخر يرى فيه ضرورة لا غنى عنها لإنجاز تحول حقيقي في المعادلة السياسية القادمة.
وبعيداً عن نسبيات وحسابات الأداء السياسي المباشر، أود الإشارة من منظور سوسيوسياسي أن الهيمنة الثقافية الواعدة التي حققتها الحركة الاحتجاجية (المدنية- الصدرية) طوال الثلاثين شهراً الماضية، في أن تصبح جزءً فاعلاً في الفضاء العمومي للبلاد، لا بدّ أن تجد انعكاساً إرادوياً لها في الحراك الانتخابي القادم، دون أن يعني ذلك تحوّل ناشطي الاحتجاج إلى مرشحين انتخابيين بل أن تبرز كتلة انتخابية تحظى بدعم الحراك الاحتجاجي ما دامت تتبنى مشروعه الإصلاحي في إقامة دولة المواطنة والعدل الاجتماعي. وبخلافه، أي دون بروز هذه الكتلة، فإن ذلك يعني عرقلة للتطور المجتمعي المتنامي نحو خيار استعادة الهوية الوطنية الجامعة.
كتبتُ في مرات عديدة سابقة أن تقصير الزمن الاجتماعي اللازم للانتقال من دولة الفساد والطائفية إلى دولة التنمية والمواطنة، مرهون بالتحشيد المخطط له لانبثاقٍ تدريجي لـ"كتلة اجتماعية تاريخية" منقذة، ذات زخم جماهيري كمي وتأثير كارزماتي نوعي عابر للهويات الفرعية بما فيها الإثنية والطبقية والمناطقية والايديولوجية، تستعين بالوسائل الديمقراطية للتأسيس التدريجي لشرعية سياسية جديدة تملأ الفراغ السياسي المتزايد بفعل تآكل شرعية السلطة الحالية.
كما بينتُ أن المبرر الموضوعي الأساسي لتفعيل هذه الكتلة، هو افتقار الحياة السياسية في العراق اليوم إلى تيار أو كيان واحد يجمع بين المقومات الأساسية الثلاثة اللازمة لظهور بديلٍ سياسي فوري (شعبياً أو انتخابياً)، وهي: امتلاكه لهوية سياسية ايديولوجية مُنجَزة، ويمارس فاعلية سياسية جماهيرية مؤثرة، ويحظى بقاعدة بيروقراطية وتكنوقراطية كفوءة، في آن معاً.
إن التحالف الانتخابي المنتظر بين (تقدم) و(استقامة) يمكن أن يشكّل خطوة أولى لتعويض افتقار أي من الطرفين لاجتماع المقومات الثلاثة الأساسية المشار إليها؛ فضلاً عن أنه سيحقق نسبة أعلى من المقاعد الفائزة مما لو خاض كل طرف الانتخاباتِ بمفرده. أما في حال عدم تحقق هذا التحالف في قائمة انتخابية واحدة، فإن الفعل الاجتماعي التواصلي الذي حققه تراكمياً التقاربُ الاحتجاجي (عبر التفاهمات التي عززت البُعدين الطبقي والوطني بين المدنيين والصدريين) سيواجه هدراً وتفريطاً في لحظة فارقة كان يُرتجى منها أن تحمل تطويراً سياسياً لحراك مجتمعي دؤوب ظل باحثاً منذ أواسط 2015 عن مسارات إنقاذية للانتقال من البنية الغنائمية الحالية إلى البنية التشاركية التي ينتظر منها تعبيد الطريق نحو دولة المواطنة؛ أي يعني التخلي الضمني عن خيار نقل الصراع السياسي تدريجياً من الطابع الإثني الإقصائي إلى الطابع الوطنياتي العقلاني.
ومن جهة أخرى إذا كان لهذا التحالف الانتخابي أن يتحقق، فلا بد أن يتحدد بمشروع سياسي تفصيلي مكتوب ومتفق عليه. كما يجب أن يخضع إلى مبدأ التكافؤ بين الطرفين (المدني والصدري)، أي إن هيكلية الترشيح ضمن الدوائر الانتخابية يجب أن تستند إلى توزيع متكافئ بينهما، يحظى بدعم إجماعي من القواعد الشعبية الراغبة بانتخاب هذه القائمة. أما الحديث عن أغلبية كبيرة لجمهور الصدريين مقابل أقلية محدودة لجمهور المدنيين، فهو أمر كمي تكافئه أغلبية نوعية لدى المدنيين بحكم ارتباطهم الثقافي والاقتصادي بكفاءات الطبقة الوسطى. يضاف إلى ذلك أن الغاية النهائية المفترضة من هذا التحالف ليست رقمية انتخابية آنية فحسب، بل في الأساس غاية سياسية مستقبلية تستلزم التمثيل المتكافئ لطرفيه الرئيسين.
إن فكرة اختزال الزمن الاجتماعي - بما يحمله من آلام الولادة ومآسي التحولات- تظل مرهونة بقدرة الأطراف السياسية المعنية على تجاوز تمترساتها الهوياتية الذاتوية، والتطلع نحو المشتركات الغائية الأكثر شمولية، بكل ما تحمله هذه التطلعات من احتمالات المخاطرة باقتراف الأخطاء. لكن معيار الخطأ أو الصواب في التفكير السياسي الإصلاحي لا يمكن التحقق منه كلياً عبر التأملات النمطية القادمة من الماضي، بل بشكل أساسي من خلال الفعل الواقعي التجريبي المعجون بحرارة الفكر وجدلياته المنفتحة على المستقبل.