بغداد- العراق اليوم:
لم تعرف أدبيات الحياة السياسية العراقية، مفهوم الزبونية السياسية، أو التحول الى " زلمة" هذا أو ذاك، طوال فترة ظهور الاحزاب والقوى السياسية في العهد الملكي، وما تلا هذه الفترة، باستثناء اتهامات طالت بعض القوى والتيارات بكونها قريبة من بريطانيا تارة، أو من جهات دولية تارةً اخرى، وبقي هذا السلوك اتهاماً لصيقًا ببعض القوى، ووصمةً في جبينها، حتى وان غيبتها السنون وردمتها الايام المتلاحقة
بمعنى ان الحياة السياسية في العراق كانت ذات توجهات اخلاقية، حتى جاء القطار الامريكي حاملًا البعث الى السلطة، ثم جاء صدام بنفس قيم العصابات، والشقاوات، فتحول الكل الى اتباع له ولعائلته، لاغياً دور القادة المجاورين، بحيث صاروا ازلامًا في دولة المنظمة السرية كما يصفها الكاتب حسن العلوي .
هنا لبس العمل السياسي ثوبًا غير الذي ألفه، واصبح " الشطار" وهي دلالة لغوية عميقة، مقربين من قائد الدولة السرية، وهم من يجملون له افعاله، ويبررون له جرائمه، ويحسنون له ارتكابته بحق الدولة والشعب.
بهذا المفهوم ترسخت ما يمكن تسميتها بـ " الزبونية" وصارت نظرية سياسية ومنهج عمل، لم ينته بعد انتهاء البعث وحقبته، بل نجح البعث ذاته في تكرسيها كحالة سياسية، وتصديرها كنظرية فاعلة في المشهد المجاور، حتى المعارض له .
وبتنا امام سماسرة يتسلقون جدران الشعارات العالية، ويخترقون بنية الاحزاب في العمق، عبر توسل الادوات المتنوعة، واستخدام قوى التأثير الناعمة، ولعلنا امام نموذجين فريدين في هذا المجال، وقد استخدما الاعلام والصحافة والثقافة، مطيةً للوصول الى غاياتهم، وحولوا بنى الصحافة والاعلام الى وسائل شراء وبيع سياسي في أبشع ما يمكن تصوره.
نعني بهذين النموذجين، فخري كريم وسعد البراز، مع تقاطع المشارب، واختلاف الاتجاهات، بل وتضادها شكلاً، لأنهما يشتركان اصلاً في عدة مشتركات جوهرية، كونهما ابنين شرعيين لمفهوم السمسرة السياسية، وانهما تاجران في عالم المواقف، وبارعان في التعبير عن الانتهازية التي تتخذ اشكالًا مراوغة في التعبير عن ذاتها.
الرجلان اللذان يعدان الظاهرة الاكثر وضوحًا للحديث عن مدى تحول البنى الثقافية والصحافية الى سوق عرض مفتوح، وقد كانا على طول المسيرة، يلتقيان رغم التقاطع الظاهري كما قلناـ في كونهما يعبران عن الحاجة الاساسية للديكتاتوريات في التعبير عن ذاتها.
سعد حصان القومية العربية!ّ
ربما يطالبنا البعض بالجائزة، لانه اكتشف فرقاً بين الإثنين، بإعتبار ان فخري كريم ينتمي للفكر الشيوعي، بينما البزاز ينتمي للقومية العربية، وهذا الإختلاف بين الإنتمائين يعد فرقاً آيدلوجياً يستحق لمن اكتشفه الجائزة التي وضعناها في عنوان هذا التقرير. ونحن نقول ان لا وجود لهذا (الفرق) بالمرة، فلا فخري كريم شيوعياً، ولا البزاز قومياً، لأن الشيوعيين اثبتوا بالتجربة، والواقع، والتاريخ أنهم نزهاء بشكل مطلق، وأصحاب ضمير أبيض، ووطنيون لا ينافسهم على وطنيتهم أحد ، في حين أن (أبو نبيل) يفتقد لهذه المزايا، بل ان الحزب الشيوعي العراقي أكثر الكيانات المتضررة منه، منذ أن وطأت قدماه بيت هذا الكيان العامر بالنضال والمكتنز بالتضحيات، ولدينا في انتهاكات فخري كريم بحق الحزب الشيوعي سجل اسود طويل يمتد الى اكثر من خمسة واربعين عاما، لا يسع المجال لذكرها الان!
اما ( قومية ) سعد البزاز، فهي ليست انصع من ( شيوعية ) فخري كريم، فكلاهما لا ينتميان الا الى اطماعهما، وذاتيهما فحسب، والقومية دخلت لسعد من باب العائلة، فقد كان خاله شاذل طاقة قومياً عروبياً، أما هو فقوميته تكمن في رقم حسابه المصرفي في بنوك بريطانيا وزيورخ وعمان والمنامة.
بدليل أنه وقف ضد قوميته العربية، وضد وحدة بلاده حين اصطف مع ألد أعداء القومية العربية، وأسند اكبر شخصية شوفينية اقطاعية متعصبة، وهو يعرف جيداً أن وقوفه مع مسعود البرزاني، هو وقوف مع اعداء خاله !
ان فخري وسعد لا ينتميان ليسار أو ليمين، ولا يخلصان لطبقة أو لقومية، بقدر إنتمائهما واخلاصهما لنفسيهما.
فمسيرة سعد القادم من الموصل مثلًا، مسيرة حافلة بلعب دور السمسار، اكثر من دور الكاتب او المثقف او الصحافي الذي يمثل رأيًا او يعبر عن فكر ما، فهو تربع على عرش الصحافة البعثية، لا لبراعة في هذا المجال، قدر ما هي اجادة في تكريس نفسه، كطرف فاعل في سوق الزبونية التي يبحث اصحاب الطموحات العالية في الشأن السياسي والمالي عن سمسار شاطر، يملك القدرة على انهاء هذه المعاملة السياسية في الظاهر، والمالية في الباطن، عبر استخدام النفوذ الناعم في التأثير على دوائر القرار انذاك.
ولعل استمرار سعد في هذا المجال اعطاه من الدراية والخبرة الشيء الكثير، وحتى بعد اعلانه الانشقاق الظاهري عن النظام في تسعينات القرن الماضي، فأن الرجل لم يبق يومًا واحدًا بلا " زلمة " يتبناه، يحتمي به، ويفتح له الباب الى الدخول من جديد في عالم بيع المواقف، والسمسرة بين الاطراف، واللعب على التناقضات.
وقد تنقل في الرعاية من حضن الى حضن، مثل ملك الأردن وملك البحرين، وملك السعودية، وقبلهم المعتوه عدي صدام، وكان لمسعود البرزاني حصة كبيرة في رعاية (أبو الطبب)، خاصة ان مسعود يعتبر الأقرب لنهج سيده القديم صدام، ليبدأ سعد اعتبارًا من عام 1998مرحلة جديدة في تحوله اللاحق، حيث اسس البزاز جريدة الزمان برعاية ودعم من جهات كثيرة يقف في مقدمتها مسعود البرزاني، وبقي في مشروعه الذي تغلغل عبره الى الداخل المعارض انذاك، وكان بمثابة صك غفران عن جرائم السمسرة السابقة.
لقد أهل مسعود سعد ليبدأ معه رحلة الدخول الى العمق العروبي السني الذي ادعى البراز تمثيله، وصار يتبارى مع أشد التيارات العروبية واكثرها تطرفًا في التعبير عن الحالة القومية، في سعي واضح لتكريس العداء القومي باتجاهات مذهبية، وحرفه عن الصراع الطبيعي " المرفوض بطبيعة الحال" وهو الصراع القومي.
لقد أدى سعد دوره على اتم وجه، وكان الواجهة التي ادى مسعود دوره في تفكيك البنية المعارضة الى شقين عربيين على أسس مذهبية فقط، ليتسيد الساحة وقتذاك.
فخري كريم، وجه يساري لمحتوى رجعي !!
في الجانب المقابل، كانت القوى اليسارية العراقية، هي الأشد بأساً في النقد تجاه الاقطاعية البرزانية، وكانت تعدها الاكثر اضرارًا بالقضية الكردية من أي تحديات مجاورة، بل كان اليسار العراقي في حالة حرب مع الزعامة القبلية لاسرة البرزاني في شمال العراق، وهذا لا ينكر من ادبيات اليسار العراقي الوطني، بل ولا تزال الكثير من القوى اليسارية العراقية تقف بالضد من تكريس الهيمنة القبلية العشائرية على الشعب الكردي، ومصادرة صوته بالاكراه.
والحال هذه وجد مسعود بفخري كريم خير من يؤدي الدور، في التغلغل الى بطن القوى الرافضة لهيمنته، وتفكيكها من الداخل، وكان كريم قد اجاد الدور ايما اجادة، لاسيما وانه محسوب بغير حق على الحزب الشيوعي العراقي كما ذكرنا، فأستفاد من سمعة الحزب الشيوعي الطيبة والنزيهة في الشارع العراقي ونفذ من خلاله الى الكثير من المواقع الوطنية المحترمة، ومنها الصحافة الشيوعية، فواصل حضوره الإعلامي، كصحافي تارةً، وكناشر تارةً، وكممول تارةً ثالثة، وهكذا صار لماكنة مسعود الدعائية جناحان، احدهما سمسار قومي، والثاني سمسار آخر مغلف بشعارات وعناوين يسارية.
ولعل مؤسسة فخري كريم التي اسست في دمشق، لعبت دورًا واضحًا في تدمير النهج الوطني المعارض، واللعب على التنوعات البدائية، فضلًا عن تصديرها لخطاب غير مألوف في الادبيات السياسية المعارضة للبعث، خطاب حساس يعتمد مفاهيم خطيرة، في ظروف كانت ومازالت أكثر خطورة .
لقد نجح فخري كريم عبر مؤسسته تلك وبأموال مسعود ايضًا في كسب جزء واسع من المثقفين والمفكرين العراقيين المعارضين وبالذات من المحسوبين على قوى اليسار، الذين آمنوا فعلاً بمفهوم حق الشعوب في تقرير مصيرها، لذلك تم كسبهم بسهولة الى جانب الدفاع عن حق شعب كردستان المشروع، ثم تحول الأمر شيئاً فشيئاً، ليستقر عند محطة الدفاع عن مسعود، وعن سلطة مسعود، ليتم اخترال كل حقوق الشعب الكردي بكرسي مسعود البرزاني، وطبعاً فقد كان عراب هذا التحول، وراعي هذه الثقافة فخري كريم نفسه!!
لقد اصبحت الوطنية بنظر فخري كريم واتباعه تهمة، وبات انتقاد منهج الانفصال شوفينية يحاول الجميع التبرؤ منها.
سمسارة ولكن !!
لقد نجح مسعود البرزاني عبر هذين السمسارين الدوليين باختراق بنية المعارضة انذاك، ليستمرا بذات الدور بعد 2003، حيث تحولا الى اكبر مبتزين عرفتهما ساحة الصحافة والاعلام في البلاد، مستغلين الغطاء السياسي الذي وفره لهما سيدهما، لقاء خدماتهما التي يقدمانها في مهاجمة أي منهج لبناء الدولة الجديدة، وتدمير اي فرص للتقارب على أسس تمس بنهج مسعود الانفصالي، واستمرا على مدى السنوات السابقة في اداء هذه المهمة القذرة بصراحة .
ولعلنا لا نأت بجديد اذا ما كشفنا عن تحول سعد البراز وقناته الممولة كرديًا وعربيًا الى واحدة من اكبر المؤسسات التي تدير عمليات ابتراز، حتى ان الكل صار يسمي سعد بـ سعد ابتزاز، نظرًا لحجم هذه الممارسة، ولشيوعها كنهج يمارسه بلا حياء أو وجل على الملأ.
على الطرف الثاني كان فخري كريم على نهج صاحبه، ولعل ملف استيلاء الرجل على سلسلة عقارات واراض تابعة للدولة في العاصمة بغداد عبر استغلال العلاقة الملتبسة التي تجمعه بأمين بغداد الاسبق صابر العيساوي، اشهر من أن تروى بهذه العجالة، ناهيك عن مكاسبه التي جناها عبر سيطرته، وتأثيره على بعض الوزراء والمسؤولين الكرد في الدولة العراقية، خصوصاً في الفترة التي عمل فيها مستشاراً لرئيس الجمهورية الراحل جلال الطالباني، حيث كان اللاعب الكردي السري رقم واحد في ملعب المصالح والبزنس السياسي والحكومي !وغير هذا وذاك هناك عشرات بل مئات القضايا التي لا يمكن ان تكتب الان.
الاستفتاء وكشف العورة !!
بقي الاثنان ( سعد وفخري ) يمارسان الدور المناط بهما من قبل مسعود، بهدوء، ولكن الهدوء في لحظات حرجة يتعرض لها ولي النعمة قد يكون بمثابة الجريمة التي يستحق عليها " كلب الحراسة" الحرمان من "، وقد يكون الطرد هو المصير .
وهنا لا يجد السمسار بدًا من الدخول بذاته الى الحلبة، لرعاية مصالحه المرتبطة مع من يسمسر لهم، فانبرى كل من الرجلين للدفاع عن الاستفتاء والأنفصال بوجهيهما السافرين هذه المرة، وكلُ حسب موقعه وما يملك من وسائل تشويش وتظليل وافتراء وتجييش وفتنة، فكانت قنوات البزاز تصب الزيت على النار، وتؤجج جميع الاطراف على بعض، وتتهم فرقاء كرد تهمًا بالعمالة والتآمر، وتدفع جهات منفلتة على جهات ثانية، ولعل من تابع التغطية السيئة بل والفضيحة الاعلامية لقنوات الشرقية في ايام اعادة كركوك لسلطة الدولة والدستور، سيكتشف حجم سحر التأثير المالي للوبي المسعودي، الذي عبر عن نفسه بلهجة عربية للأسف.
مثله كانت مؤسسة فخري كريم وجوقه الاعلامي يفعل، بل أكثر، وقد حرك جيشه الالكتروني في محاولة لنصرة سيده، الا ان الضربات كانت أقوى، والهزيمة لمعسكر الانفصال مدوية، ولم يعد معها الرجل يستطيع ان يتمالك نفسه، وهو يرى رهانه السابق على كسر الاصوات الكردية النافرة من مسعود وسطوته الباطشة، قد سقط وان ضربات التحالف العربي –الكردي كانت لسيده بالمرصاد، وعزلته في سره رش حائرًا لا يعرف كي يداري فشله، و لايملك الحيلة الكافية لتبرير نكسته هذه.
لقد كان هول الضربة قويًا على مسعود، لكننا نعرف ان فخري كريم ومثله صاحبه، كانا قد تلقيا الضربة بأقوى ما تكون، ولم يعد لديهما ما يمكن ان يبررا لسيدهما هذا الفشل، سوى ان يكتب فخري كريم بنفسه مقالًا افتتاحيًا مرتبكًا مفككًا مهزوماً عنوانه " العار ليس عيبًا "!.
ولا نعرف متى يتحول العار الى عيب، اذا ما كان ما فعله كريم وصاحبه يستحق ان يسمى عارًا، ام أن العار صار كبيرًا على مثليهما ! .
*
اضافة التعليق