متابعة- العراق اليوم:
------------------
شيء عن المطرب مسعوده العمارتلي ...
نعيم عبد مهلهل
تضج المدينة الجنوبية المسماة ( العمارة ــ جنوب العراق ) بغرائب سحرها عندما تصنعها خليقة دجلة الغافي على اجفان بيوتها المتسربلة بين افياء بساتين النخل حلما سومريا لأشجان ميسان القديمة ، وللغناء فيها طعم العسل الذي يقطر من شفتي فم المدينة وهي تمد نعاس لياليها على أرائك النهر وليس للعمارة إن تكون مدينة تتحدى أزمنة القساة والجوع وضريبة المذهب والطبيعة المجتمعية المميزة في صوت اللهجة والتقاليد ، فهاهو الموال والأبوذية يوشم خد المدينة بأساطير النغم ، وربما مسعود العمارتلي وقصته وشهرته تمثل إحدى غرائب ودهشة وجود المدينة في بحثها الأبدي عن أزل الموسيقى الذي يعود بجذورة الى قيثارات الذهب التي وجدها متناثرة بين حناجر الألواح وجدران المعابد ومسلات الملوك.
وقصة الأسطورة الغنائية ( الأنثى ، الذكر ) يعرفها الجميع وظهرت في مسلسل تلفزيوني جسد دور مسعود فيه الفنان سعدون جابر.
لكن أسطورية الحكاية والنغم تخلقان خصوصية ليس لمسعود وحده بل للمدينة ، فلكي تكون المدن خالدة عليها أن تنتج المطربين الخالدين ،ولأن الجنوب في كل الأرض منتج أزلي للغناء فلا بد أن تحمل كل مدينة خصوصية مع واحدة من حناجرها الطروبة ،وفي الجنوب السومري امتلكت الناصرية والعمارة بعض هذه الخصوصية المميزة دون غيرها من مدن الجنوب من خلال إنتاج تلك الأصوات الخالدة التي ظهرت في مرحلة طربية واحدة ( داخل حسن ، حضيري أبو عزيز ،مسعود العمارتلي ، ناصر حكيم وغيرهم ...)...
شكلت حنجرة مسعوده صورة الهاجس الخيالي لذات المدينة من خلال أطروحته الغنائية المتميزة التي تحدت ظروفا وتقاليد اجتماعية قاهرة.
ارتدت مسعودة ملابس الرجل فلم ينتبه الناس الى متغير الشكل بل كان الانتباه مأخوذا بسحر الصوت الذي جال في نواحي العمارة آتيا من مهد الولادة في الكحلاء.وقد قربت مجالس الشيوخ والأنس هذا الصوت ( المسترجل ) وكان صوته يضج بعذوبة المكان وخصوصيته واقترابه من حياة الناس وطبائعهم وهو يشد في بحة الحزن وجدان لوعته الذاتية فيما اختاره ليترك أنوثة الضفائر وبروز النهدين ليرتدي العقال ويقف على المسرح في دافع مفترض إن الرجولة قد تسمح له بتحقيق طموحه في الشهرة والانتشار والوقوف على مسارح ملاهي ومقاهي العاصمة وبالفعل دفعته شهرته واعتراف متذوقي الطرب الأصيل بصوته الى الوقوف جنبا الى جنب مع المطرب الشهير حضيري أبو عزيز وغنـّيـا معا في حفلات في بغداد وحلب وغيرهما من المدن وسجلا لشركة اسطوانات جقـمقـجي الكثير من الأغنيات.
يذكر كالفينو في صناعة مجد المدن إن المدن تحيا ببهاء صوت منشديها ،فهم وحدهم من يصنعون للآلهة والأباطرة وقادة الجند مدنا ساحرة تعيش مع نشوة شعبها النادر.
ربما إنسان المدن الجنوب من الندرة بأنه يخضع لحسية الصوت قبل أي حس آخر لهذا كان الغناء يمثل الوجدان العميق الذي يفسر الحياة كما يتمناها الفقراء من الصيادين والمزارعين واصحاب الحرف.فكان مسعود يجسد تلك الرؤى في إبداعه ونضوجه الغنائي المبكر وفوقها كان يلحن أغانيه بنفسه من خلال الدندنة والأذن الموسيقية دون أن يكون عازفا أو أكاديميا ،وكأنه عند مقولة دافنشي :الإبداع الحقيقي تصنعه الفطرة الحقيقية ، لهذا خرجت من حنجرته ملحنة ومدوزنه أغانيه الخالدة التي تنقش كلماتها وأنغامها في ذاكرة الشعب كما نقشت ألواح سومر كلماتها وأنغام قيثارات أميراتها قبل مسعودة بآلاف السنين فجاءت أغانيه عبقة وحسية وطروبة كما في ( سوده شلهاني ) و( ذبي العباية ) و (خدري الجاي خدري ) و( بوية محمد ) و ( كصة المودة ) و( براضه أمشي براضه )..
في مزج إحساس المدينة بشخصية المطرب وصوته نحصل على طبيعة متجانسة وتوفيقية بين الإنسان وبيئته ، وربما ما فعله مسعود من تغيير جنسه هو تعامل ودي مع الطبيعة لهذا لم يعانِ من المتغير في مجتمع من الصعب كبح جماحه وتعديل نظرته وربما الفضل في ذلك يعود الى جمالية صوت المطرب وسحره وتأثيره على سامعيه لينسى الناس تبعية ما فعله ولينطلق في جسد المدينة ومسمعها صوتا يمتلك الحظوة والقيمة الطربية وليصبح يومه موعدا لمجالس لأكثر من وجيه وشيخ عشيرة وأريكة مقهى.
هذا المؤثر المهيمن على سطوة التقاليد لم يقف عند حدود ومساحة المدينة ، فما يزرعه الجنوب تحصده العواصم دائما ، فكان أن ذهب مسعود الى بغداد وليمثل هناك ظاهرة حسية ووجدانية في نقل إحساس مدينة حمل اسمها كلقب فكان النشوة في الصوت يمازج النشوة في سماع الأشم ( العمارتلي ) ، لتكون المدينة أول من تنتمي الى اللقب الفني المسموع ومعه المطرب عبد الأمير الطوريجاوي الذي ينتمي الى بلدة طويريج قبل أن يشاع أسماء المدن الملتصقة في مطربيها كما ( الدراجي ، والبغدادي والبصري والناصري والحلي )ً.
لقد كان يقولون مهما فعلت العواصم بغربائها فإن أعناقهم مشرئبات الى بيت الولادة ،ولهذا لم تؤثر العاصمة في مسعود ولم تعطه الشهرة غرور التبجح والبحث عن سكن حضاري في واحد من أحيائها ،وربما ظل الشعور بازدواجية الجنس ملازما له وظلت الكثير من الإشاعات والتغميزات تلاحق نظرات سامعيه حتى وهم يصفقون في نشوة صوته الذي يصنع الموال المحمداوي بحرفة ماهرة وأخاذة ،واعتقد إن مسعود كان يعي هذا جيدا فأراد إثبات شيئا من فتنة الصوت والرجولة فعمد راجعا الى مدينته الكحلاء وهناك تزوج من واحدة ربما كانت مسحورة في صوته لتحدث تداعيات كثيرة ظلت مستورة ولم يكشف عنها ،ولكن التاريخ دائما يلصق في الكبار النهاية المأساوية ، فينتهي هذا الصوت الخالد بصورتين من النهاية واحدة تقول إن مسعود مات مسموما على يد زوجته بعد أن كشف أمره وشاع ارتداؤه تلك الازدواجية في الجنس وكأن الزوجة حملت وزر هذا الأمر الذي قد يعتبر عارا في بعض وجهات النظر الاجتماعية فدست له السم ،ويقال انه مات متأثرا في مرض التدرن الرئوي وذلك عام 1944.
ومهما يكن ففي مجتمع عشائري مثل الكحلاء لم يكن توقع هكذا ردود فعل مفاجئة حتى مع مبدعٍ اشتهر على صعيد العراق كله ،لان الوضع الجسماني للمطرب ، وضع حساس وحرج وليمكن أن يتناسى حتى لو كان صاحبه ملكاً.غير أن مسعود العمارتلي أو ( مسعودة ) شكلت ظاهرة فنية متميزة في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي ،وربما يكون هو واحدا من الريادات الغناء العراقي يوم تأسيس الإذاعة العراقية ( محمد القبنجي ،داخل حسن ، حضيري أبو عزيز ،مسعود العمارتلي).
سجلت تلك الدراما الحياتية والوجدانية تأثرا في الضمير الحي لدى الكثير من أبناء المدينة وإن أحداً لم يفكر وقتها ليفسر ويغور في السيرة الذاتية والفنية لهذا المطرب ، لكن مقالة للروائي العراقي فيصل عبد الحسن وهو يتابع مختارات شعرية للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري والتي صدرت ضمن مشروع اليونسكو ( كتاب في جريدة ) قد تنبهت الى هذا الصدى الذي تركه المطرب في الوجدان الجمعي لدى الطبقة المثقفة والمتحضرة في ذلك الوقت عندما أشار الكاتب فيصل عبد الحسن الى ظنـّه أن الجواهري كان يقصد تغزلا المطربة مسعود العمارتلي في واحدة من قصائده قول الروائي فيصل عبد الحسن (( ومن قصائد المختارات - عبدة - التي وضع فيها أجمل عبارات الغزل بشخص مطربة سوداء ، نضيدة الأسنان - معسولة الشنب- وربما هي مطربة الجنوب العراقي المعروفة بأسم رجل هو - مسعود العمارتلي - ))
ومن بعض أبيات القصيدة قول الجواهري :
أعبدة يا أبنة الطرب ويا معسولة الشنب
ويا معزولة النصفي ن مبتعد ، ومقترب
كرجع الحائك النول بنسج المطرف القشب
ويا مهزوزة الخطوا ت لم تخطئ ولم تصب....
لم يكن( مسعوده) هو النتاج الخالد لهذه المدينة والذين جعلوا من العمارة اسما ملتصقا مع الفنان أينما حل وارتحل بل أن العمارة ظلت ملاصقة للكثير من الحناجر التي شاع الولع بأدائها في زمن انتشار الكاسيت وظاهرة التسجيلات التي عاشت عصرها الذهبي في زمن ظهور سلمان المنكوب وعبادي العماري وجلوب ونسيم عودة وغيرهم ، وحتما هؤلاء هم أحفاد بررة لذلك الصوت الخالد الذي أشاع مسحة الحزن والعشق والحنين واللوعة والتي مثلها جيدا صوت المطرب سلمان المنكوب ، وكانت إذاعة القوات المسلحة في بداية سبعينات القرن الماضي تذيع أغنيات هذا المطرب لاكثر من مرة في اليوم فلقد كان له التأثير الساحر والإيقاع الذي يبعد( هوم سك) العزلة والخوف من شظايا الحرب عن الكثير من أبناء الجنوب الذين جندتهم الدولة في حرب الشمال المسماة ( حرب برزان )والتي التصقت فيها تلك الهوسة الشهيرة لواحدة من الأمهات العماريات اللائي ثكلن بأبنائهن في تلك الحرب بقولها يوم جلب النعش إليها قادما من ربايا الثلج الباردة الى دفء القصب والماء في العمارة قولها ( طركاعه اللفت برزان ..بيـّس بأهل العمارة ) والطركاعة تعني في لهجة الجنوب المصيبة والصاعقة ..وكلمت بيـّس تعني أوغل ، والمعنى العام هو ( مصيبة وصاعقة ضربت الملا مصطفى البرزاني لأنه أوغل قتلاً بأهل العمارة من الجنود ).
يمثل الغناء بعض هوى الروح ( العمارتلية ) وكان الجنود يأتون بأطياف مدينتهم وظلال النخل وآماسي كورنيش دجلة من خلال طور المحمداوي الذي يجلب لهم كل صدى يتمنونه بدءا من الأمهات وانتهاء بحبيبات عيونهن أوسع من عيون جياد براري الشيب والطيب وجلات وكميت وعلي الشرقي والغربي ، وأرق من ريش البط الملون بتفاصيل مشاتي الأهوار الدافئة ،البط الصيني والاسكندنافي والكوري،وذكر بعض الجنود إن بطا كنديا كان يزور شتاء العمارة.
بين البط وأسطورة مسعود أصنع وجودا مفترضا لمدينة تصنع أثرها من دلال الأزمنة وتواريخ الجوع والعشق والصلوات المندائية لأولئك الروحانيين الذين كانوا يجوبون القرى والمدن ليكشفوا طالع الحلم وغسل الاجفان الحيرى بضوء النجوم.........!
*
اضافة التعليق