سارة الدريس – كاتبة كويتية
كنّ يتحدثن عن الداعشين اللذين قتلا والديهما، والكويتي الذي نحر أخاه في منطقة غرب مشرف لأنه يتبنى أفكاراً إلحادية ولا يصلي، والشاب السعودي الذي قتله أبناء خالته غدراً وقاموا بتصوير جريمتهم النكراء ونشروها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. الأخير لم تثنهم توسلاته بأن يستعيذوا من الشيطان عن قتله، فقط لأن هؤلاء الشياطين الإنسية رأت أنه رجل أمن يعمل في خدمة حكومة لا تطبق شرع الله، برأيهم، وبذلك هو في نظر كل التنظيمات الإرهابية كافر خارج عن الملة ويستحق القتل.
هو حديث دار بين ست سيدات لا تتعدى ثقافتهن الدينية ما تعلّمنه في المدرسة، وما قرأنه من رسائل على واتس آب من تلك التي تصلنا على طريقة "انشر تؤجر".
قالت إحدى السيدات بنبرة مليئة بالحزن والأسى لحال الشباب المسلم الذي تفشى فيه الجهل والتطرف "هل المسلمون الأوائل قتلوا أقرباءهم؟ هل قتل أحد منهم خاله أو عمه؟ هذا ليس من الإسلام في شيء!".
ليس من الإسلام؟
"ليس من الإسلام في شيء". تردد صدى هذه الجملة على مسمعي. "هذا لا يمثل الإسلام"، "هذا ليس الإسلام الحقيقي"، جمل نسمعها كلّما ارتكبت جماعة من المسلمين جريمة وحشية.
تذكرت أخباراً سردتها كتب التاريخ الإسلامي. تذكرت قصة أبي عبيده بن الجراح الذي قتل والده في بدر وضرب رأسه بالسيف ضربة فلقت هامته فلقتين، وقد نزلت فيه آية "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخِر يُوادّون مَن حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كَتَبَ في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه ويُدخلهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون".
ومعنى ذلك أنه لا يؤمن بالله واليوم الآخر من يبدي المودة والمحبه لمَن عادى الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم، الخ. يقول قائل إن المعنى مختص بـ"مَن حاد عن الله ورسوله" وليس بمَن كفر بالله ورسوله، أي بمَن أظهر العداوة لهما.
أما بمَن لم يُظهر العداوة فقد قال تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون". فإما قتالهم، أو يخضعون للدولة الإسلامية بدفع الجزية وهم أذلاء صاغرين مطأطئي الرؤوس.
ويبرر البعض قتل أبي عبيدة لوالده بأنه قَتَله في ساحة حرب وقد كان أبو عبيدة يحيد عن والده "الذي تصدى له بسب النبي" فقتله ولم ينكر عليه النبي صنيعه بل نزلت به آيه كريمة تبارك فعله. وقال ابن مسعود إن هذه الآيه نزلت كذلك في مصعب بن عمير الذي قتل أخاه عبيد بن عمير، وفي علي وحمزة وعبيدة الذين قتلوا عتبه وشيبه ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وكلهم أبناء عمومة.
وقد قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام بن المغيرة، وقد ورد في السيرة النبوية لابن هشام: "وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي: أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص، ومر به: إني أراك كأن في نفسك شيئاً، أراك تظن أني قتلت أباك، إني لو قتله لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيره، فأما أبوك فإني مررت به، وهو يبحث بحث الثور برَوْقه فحُدْتُ عنه، وقصد له ابن عمه علي فقتله". وورد أيضاً في كتاب "الرحيق المختوم": "وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاله العاص بن هشام بن المغيره ولم يلتفت إلى قرابته منه".
في جواز قتل الأقارب
قتل شاب عشريني أمه لأنها طلبت منه ترك تنظيم داعش. حكم عليها بالردة وقتلها لأنها طلبت منه ترك تنظيم يهدف إلى تطبيق شرع الله، بحسب ما يرى. فبرأيه، هي حادت عن الله ورسوله وتستحق القتل. وقتل شاب خاله العقيد في الجيش الذي يحمي حكومة لا تطبق شرع الله، حسبما يرى. وللأسف الأمثلة باتت كثيرة.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن الوالد إذا دعا الولد للشرك فليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه وهذا الأمر والنهي للوالد من الإحسان إليه وإذا كان مشركاً جاز قتله وفي كراهته خلاف بين الفقهاء".
يبرر البعض كل الأمثلة أعلاه بأنها وقعت في ساحة حرب. رغم أني أرفض الحروب الدينية بكل أحوالها، لكن المشكلة لم تعد في المكان ولا في الحالة، فتنظيم داعش وكل التنظيمات الإرهابية ترى أنها الآن في حالة حرب مستمرة، وتحضّ على الجهاد!
المشكلة تكمن في أن هذا الذي يقتل قريبه يبدأ في تصنيفه: هل هو يواد الله أو يحاد الله؟ ثم يقوم بتكفيره، ثم يصدر الحكم عليه، وحكم الكافر القتل. هكذا بكل بساطة! وهؤلاء لا أحد من شيوخ الدين يقول لهم إن النص الديني الذي يقرأونه قد لا يعني ما يفهمونه منه، بنصه أو ظروفه وزمنه. يغضّون النظر، ونراهم يدينون الفعل مع أنهم يشرّعون الأساس الذي بُني عليه هذا الفعل!
خيالات المتطرّفين
ومن باب الانصاف، في الإسلام والسيرة مواقف رحمة كثيرة، من برّ بوالدين وعطف على يتيم وإحسان لجار، و"من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، الخ.
لكن في الوقت نفسه هنالك في التاريخ الإسلامي جز للرؤوس وحرق بالنار وتسميل للأعين وقتل للأسرى وسبي للنساء.
وتخيل أن بعض الفرق الإسلامية ترى أن تطبيق الحد بقطع الرأس لا يكفي، بل يجب ترهيب الآخرين وبث الرعب في نفوسهم وإصدار رسائل رعب وتهديد ليهابوا ما يسمّونه بـ"الدولة الإسلامية". وهم يتقربون إلى الله بالإسراف في سفك الدماء!
ولتبرير أعمالهم يستدلّون بقتل الرسول لكل أسراه من الرجال بلا استثناء في غزوة بني قريظة، حتى الأطفال الذين بالكاد قد بلغوا الحلم. وعقب على هذا الحكم بأنه حكم الله من فوق سبع سماوات، وبقوله تعالى: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم". ويثخن أي يبالغ في قتل المشركين ويقهرهم غلبة وحسرة، و"تريدون عرض الحياة الدنيا" أي المتاع والفداء بأخذ الرجال.
كذلك يستدلون بما رُوي عن خالد بن الوليد حين نذر لله قائلاً: "اللهم لك عليَّ إن منحتنا أكتافهم أن لا أستبقي منهم أحداً أقدر عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم"، فقتل سبعين ألفاً من الفرس بثلاثة أيام حتى غدى النهر أحمر! وحين وصل خبر ما فعله خالد لأبو بكر، قال كلمته الشهيرة: "يا معشر قريش، عدا أسدكم (يعني خالداً) على الأسد (يعني كسرى والفرس) فغلبه على خراذيله (أي على فريسته)، أعجزت النساء أن ينشئن مثل خالد!".
ولتكتمل الصورة التي يراها المتطرف في خياله، يقرأ قول رسول الله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله"، وقوله أيضاً: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على مَن خالف أمري ومَن تشبّه بقوم فهو منهم".
ضوء خافت على النصوص
أودّ هنا أن أنوه، حتى لا أحاكم بقضية ثالثة، إلى أنّي في هذا المقال لا أهاجم النصوص ولا أنكرها ولا أبرّرها. أود فقط أن ألقي ضوءاً ولو خافتاً على تلك النصوص التي يستخدمها المتأسلمون المتطرفون لتبرير أفعالهم، عن جهل أو علم لا يهم، فكل هذه النصوص ستجد لها من طوائف المسلمين مَن يبررها، ومَن ينكرها، ومَن يفتخر بها، تارةً بذريعة حالة الحرب، وتارةً أخرى بذريعة تكفير الآخر لمخالفته في المعتقد، وتارةً ثالثة بذريعة اتهام الضحية بالعداوة للإسلام، حتى لو جاءه المسلم إلى عقر داره غازياً وليس العكس! فلو جاؤونا هم نسمي فعلهم احتلالاً واستعماراً، ولو جئناهم نحن نسمي فعلنا فتوحات!
وأنا أستغرب في الحقيقة من طبيعة هذه النصوص وهذا الإرث الذي تجد له ألف مبرر ومنكر وتأويل، مبررين ذلك بإفساح المجال للاجتهاد، وبأن الاختلاف رحمة.
نعم الاختلاف رحمة إلا في دم الإنسان وحياته، ولا اختلاف في كرامة الإنسان وحقه في الحياة. حياة الإنسان خط أحمر عريض يستلزم الوضوح. لا نصوص عصية على الفهم تحتمل ألف رأي وألف تفسير وألف تأويل.
وبين حديث ضعيف وتأويل ظني أو منحرف تمتلئ بهما كتب التراث، يستمع شاب بسيط بثقافة محدودة لشيخ يقول له إن "رغبة النفس لسفك هذا الدم وسحق الجماجم وتقطيع الأجزاء في سبيل الله جل وعلا والدفاع عن دينه لا شك أنه شرف للمؤمن"، ويستمع إلى مشايخ يقولون أنه بغير الجهاد وقتل الكفار والمرتدين لن تقوم للإسلام قائمة. يا ترى ماذا عساه أن يفعل؟
ماذا عساه أن يفعل حين يستمع إلى مشايخ يكفّرون ثلاثة أرباع الكرة الأرضية معتبرين داعش خوارج ضالين، أما الليبرالي والعلماني فيعتبرونهما كافرين، ويصفون الشيعة بالرافضة المجوس، ويلعنون كل هؤلاء مع اليهود والنصارى في كل صلاة وكل أسبوع وعلى منابر يوم الجمعة، ويرى تساهلاً وإفراطاً في التكفير، وتهوراً ورعونة في إصدار أحكام الردة!
ماذا عساه أن يفعل، خاصةً حين يربط هذه الأفكار بواقعه التعيس ووضعه المتردي تحت سلطات فاسدة وسوء في توزيع الثروة وضيق أفق الحرية وقمع الآراء وغياب للعدالة وتكافؤ الفرص، بالإضافة إلى فراغه وغياب أهدافه في الحياة؟ الجواب بسيط: سيجنح إلى العنف والقتل ظناً منه أنه يدافع عن معتقده ضد الذين يحادون الله ورسوله سواء كانوا أقرباء له أم لا، وسيثخن في الأرض ظناً منه أنه بهذا يُنزل حكم الله العادل ضد الحكم الوضعي وحكم الطاغوت!
كيف لا تتضخم لديه بعد هذا ثقافة الكراهية، ويترك كل نصوص التسامح والرحمة والتعايش ويعمل بالنصوص التي يظنّ أنها هي ما سيحقق له ولرسالته قوة وهيبة، وينقل بلده من الحضيض إلى سيادة العالم؟ فقد ضاع الكلام أمام سلطات لا تحترم الكلام ولا الحقوق ولا الحرية، خاصةً أن "المعتدلين" من رجال الدين لم يتصدّوا لمهمة نقد النصوص التي سمعها المتطرّف أو قرأها ولم يقولوا له إن ما كان يصلح لزمان الرسول ولتحدي الرسول شخصياً لا يصلح ليومنا هذا لأن لا أنبياء بيننا.
ثم نتعجب بعد كل هذا من أين أتت داعش! هل كانت هذه النصوص تنطبق على زمن معين يختلف عن زمننا هذا؟ وإذا كانت كذلك هل يعني هذا أنها ليست صالحة لكل زمان ومكان؟ هل المشكلة في النص ذاته، أي في اختلاف تأويله وتفسيره؟ لماذا نستنكر بعد كل هذا قتل الشباب الآن لأقربائهم، الذين يرون فيهم علامات الكفر بعد تصنيفهم؟ وإذا كانت تأويلات النصوص متضاربة وغير صحيحة، وكل من المسلمين يأخد منها ما يرضي مزاجه، فهذا الإرث الديني كله بحاجه لأن نضعه على الطاولة ونقوم بعملية جرد شاملة لأفكاره وأحكامه ونصوصه.
أرجو من أهل الذكر أن يتركوا النامصة والمتنصمة في حال سبيلهم، وعوضاً عن أن يهتموا بتحريم الأغاني أو قيادة السيارة، ليتكاتفوا جميعاً وينقذوا البشرية من مزيد من القتل، لننشر نصوص التسامح والرحمة والتعايش، ولنلغِ كل نصوص القتل والكراهية، وبرأيي هذا بات ضرورة ملحة.
أخيراً، يقول صوت جميل: "لا تقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق". آية جميلة، لكن تعرف أين المشكلة؟ في الاستثناء، في "إلا" هذه التي يأتي بعدها التصنيف فالتكفير فالقتل، وفي الحق الذي بتنا لا نعرف بوصلته. وبذلك لم أعد أعرف أين هو "الإسلام الحقيقي" وأرجو ممن يعرف طريقه أن يرشدنا إليه مشكوراً.
*
اضافة التعليق