مهند الساعدي
اشتبكت خطابات التيارات الاجتماعية في العراق مع نفسها كثيراً ، ووقع اليوم ما كنا نخشاه ، من ولادة الخطاب الازدواجي المرتبك الذي ينزع نحو التطهر من السلطة ، والالتصاق بها التصاقاً مشيمياً في آن واحد ! وهي من اكبر المفارقات التي رسمتها الحالة الاجتماعية في العراق وهي تحاول صياغة حداثتها على مستوى الدولة والمجتمع .
كان الشاعر العراقي (ابو الطيب المتنبي ) يعاني من متلازمة كره الحكام والرغبة في العيش بجوارهم ! وربما كان يمثل غيره من الشعراء ، وغير الشعراء ، او يمثل عينة من طبيعة بشرية تعاني من الازدواج في علاقتها بالسلطة ومن يمثلها . كما المزيد من العلماء ، وفقهاء السوء ، والسحرة ، والمشعوذين ، ووعاظ السلاطين ، مثله تماماً .
والعراقيون اليوم ، مثل شاعرهم الكبير ، في علاقتهم بالسلطة : يتطهرون من دنسها ، ويتزاحمون عليها حد الاختناق ! ويمكن ان نعتبر ان السمة السوسيولوجيّة الابرز في تاريخ المجتمع العراقي هي تشويه سمعة السلطة - المشوهة أصلاً - والمشكوك في نزاهتها . وهذا جزء من تطور صراع العراق القديم مع الطبيعة ومع المدن ومع الحكام ومع الآلهة .
يميل الخطاب الأدبي والشعبي السائد بشدة نحو تدنيس السلطة ، والسلطويين ، والتشكيك بشرعيتها ، ومطالبتها بتبرير هذه الشرعية باستمرار ، وعدم الاقتناع السهل بالمعطيات القانونية والسياسية التقليدية . ويصر هذا الخطاب الاناركي ( اللاسلطوي ) على استهداف السلطة السياسية أولاً وقبل كل شئ ، فاسحاً المجال لابويات وسلطات ، أقدم واشمل ، مثل سلطة الأب ، وسلطة الرجل ، وسلطة القبيلة ، وسلطة راس المال ، وسلطة الاعلام ، والسلطة الرمزية ، لتفتك بالحريات الخاصة والعامة ، وتعرقل التحديث ، وتنتج باستمرار ، كل ما هو سياسي ، بطريقة تبدو انها غير سياسية .
تحولت الظاهرة الاجتماعية برمتها الى الهروب من السلطات الصارخة ، الى السلطات المضمرة ، وتم الاحتماء من سلطة الدولة ، او التمرد عليها ، او نهبها ، او محاربتها ، من خلال العودة للتحالف او الخضوع لسلطات بسيطة ومتخلفة عن سلطة الدولة .
فسلطة القبيلة تنفي سلطة القانون ، وسلطة الميليشيا تنفي سلطة الجيش والشرطة ، وسلطة الطائفة تنفي سلطة الحزب او تتحول هي الى حزب ، وسلطة الإتاوة تنفي سلطة الضريبة ، وسلطة التعليم الديني تنفي او تشكك بسلطة التعليم الحديث .
ومما فاقم هذه النزعة ، ان الدولة العراقية بالاساس هي دولة فتية ، تتسم بالضعف وعدم الاستقرار وقلة التحديث ، فهي دولة لم تتفاعل مع الحداثة ولم تنتج مجتمعاً حديثاً قوياً ، ممكن ان ينفع في تطبيق اللاسلطويات الذاتية او الاقتصادية او النقابية او المجتمع مدنية ، وإنما تكون غالباً ، البدائل اللاسلطوية ، اشد تخلفاً من الدولة ، واكبر خطراً على المجتمع .
يتفشى عندنا اليوم ، الخطاب الهجائي للسلطة ، كما لا يتفشى في اي مجتمع اخر ، وينزع الأدب ، والشعر، والصحافة ، والاعلام ، ومواقع التواصل الاجتماعي ، الى مراكمة إنتاجه اليومي ، في التشكيك بالسلطة ، والطعن في شرفها ، وتخوين رجالها ، و اعادة السرديات حول تاريخها القذر ، والتحذير من حيلها وألاعيبها ، وإغراء الفقراء والمهمشين بشتيمتها .
لقد تحولت سلطة الدولة الى سلطة مكروهة ، وتبعاً لها ، صار السياسي العراقي مكروهاً ، مطعوناً ، محسىوداً ، ليس في العالم من هو أسوأ منه سمعة .
عندنا ، صارت عبارات تبرئة النفس ، وتنزيه الذات ، والتطهّر ، هي ذاتها عبارات البرائة من السلطة ولوازمها ؛ مثل عبارات ( انا مستقل ) ( انا غير حزبي ) ( انا لم احصل على شئ من الدولة ) ( انا غير محتاج للدولة ) ( انا لم اتلوث بالسياسة ) ( انا لم اكل مال الدولة الحرام ) وما طابق او شابه او لازم ذلك .
لكن في ذات الوقت و الموضوع ، يعتمد المجتمع العراقي على الدولة اعتماداً كلياً ، ويتغذى من اقتصادٍ ريعي ، واشتراكية مريحة ، وضعف مخيف في الإنتاجية ، وأهمال لقطاعات الحياة الحقيقية في الزراعة والصناعة والتجارة ، أدت الى البحث عن الفرص السهلة في الوظائف العامة ، وعلق الجميع في محالب هذه الدولة الريعية ، محاولين السيطرة عليها ، والهيمنة على مقدراتها الكبيرة . و كانت السياسة هي المدخل الأهم ، والبوابة الاوسع التي اتجه اليها المجتمع للهيمنة على الدولة .
صرنا ننتج خطابنا الازدواجي حول السلطة ، وهو خطاب يفر منها أخلاقياً ومعنوياً وادبياً ويفر اليها ، اقتصادياً ، وسياسياً !
من خلال معايشة نموذج الدولة الحديثة والقوية ، تجد ان نقد المواطن ينصب على النجاح والفشل اكثر من انصبابه وهوسه بالناجحين والفاشلين ، وهو يكتفي بمعاقبتهم بالانتخابات دون الاستمرار في هجائهم او الاستغراق في هجاء السلطة التي جاءت بهم او اتخاذ مواقف يائسة ومتطرفة واناركية منها . ان الدولة الاشتراكية الشيوعية كانت دولة حديثة وقوية ، والدولة الرأسمالية الليبرالية الحرة هي دولة حديثة وقوية ، ومع ذلك كانت الشيوعية تصوغ خطابها الاخير نحو اللاسلطوية النهائية . وكذلك الليبرالية الكلاسيكية ، اتخذت من السلطة موقفا ًتاريخيا قائما ً على الريبة والتشكيك بالنوايا والممارسات، في نفس الوقت الذي اعتبرت فيه الأقتراع العام واحدا من اهم اركانها . لكن حتى التعامل مع سلطة ما بعد الأقتراع فأنه يجب أن يكون مسكوناً بالحذر الشديد من خلال مقاومة مطالب رجال الدولة بالمزيد من الصلاحيات والامتيازات .
ويؤثر في الفكر الليبرالي القول المشهور للورد ( آكتون ) : أن السلطة تتجه دائما نحو الفساد،والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة . وفِي كل الحالات بقيت هيبة الدولة ، والشعور بضرورتها صفة ملازمة للمجتمعات الحديثة المتطورة .
اما السلطة والحكام عندنا فهما موضوع الثورة ، والنقد ، والهجاء ، وسوء الحظ ، ومكر التاريخ ، والقضاء والقدر .
والحاكم عندنا هو الكذاب ،الأشر، الماكر ، المراوغ ، السارق ، الخائن ، الذي نسعى جميعنا ، او أكثرنا ، - من جهة اخرى - ان نكون هو !
الخطاب الاخلاقي والأدبي السائد هو خطاب يدنس السلطة ويدعو الى التطهر منها ، لكن عدد الأحزاب ، ونسبة المشاركة في الانتخابات ، التي تمثل الحكام المفترضين والمحكومين ، لا تدل على ذلك ، وتعد من بين النسب الاكثر والاكبر على مستوى العالم ، وهذا يؤكد اننا مثل شاعرنا رحمه الله :
نكره ونحتقر كافور الإخشيدي ، لكننا نلتصق بسلطته ، ونتقرب الى قصره ، وناكل من ماله المشبوه .
في تضاعيف ذلك ، بدت الانتلجنسيا العراقية في اوهن حالاتها ، وهي تختار حقولها النقدية ، وتسلط التفكير ، وتبني المواقف ، ضد الظواهر الأوضح ، والاهداف الاسهل ، وعلى راسها سلطة الدولة ، لما لها من حضور وظهور يتميز على غيره من السلطات ، لشموليته أولاً ، ولعنفه ، وعلانيته ، ثانياً وثالثاً . فتم استنزاف الطاقة النقدية في حقل السياسة ، وجرى تحميل الدولة الضعيفة ، كل عيوب الاخلاق ، والتاريخ ، والمجتمع . وتعرضت العلاقة النوعية والسببية ، بين ( كيف المجتمع ) ونوع الحاكم ، الى اختلال التوازن ، والعلاقة السببية ، فصار المجتمع العراقي ينحو نحو الانفكاك عن سلطته ، وينحو كذلك لتطهير نفسه بالاصرار على تدنيس سلطته السياسية !!
ارتبط الفكر الاناركي في القرن الاخير ، بوصفه يسارا أقصى ، او حركة يسارية متطرفة ( أسميهم خوارج اليسار لان بعض فرق الخوارج كان عندهم افكاراً قريبة من الاناركية ) وربط بعض النقاد والمفكرين بين الاناركية والفوضى ، او الرغبة من التخلص من العبودية ونظام الاجور . لكن تفكيك الخطاب الاناركي العراقي ، يقودنا الى اكتشاف مكونات خاصة اخرى ، فارعة من التكوين التاريخي والحضاري لهذه الامة ، والعلاقة المأزومة مع سلطة الحاكم عبر قرون وسلالات .
ثمة سلطتان كبيرتان ، ما انفكتا تختبران صبر وبأس الشعوب ، وقدرتها على التحمل ؛ هما : سلطة الظلم وسلطة العدل .
فكما ان سلطة الظلم تحتاج الى طاقة كبيرة لتحملها ، ومقاومتها ، والتخلص منها ، كذلك سلطة العدل ، تحتاج الى طاقة ربما اكبر ، لتحملها ، وقبولها ، والحفاظ عليها .
وفِي الحقيقة ان طبيعة كل مجتمع انه يفرز طبقات مختلفة ، بعضها يقاوم سلطة الظلم ، والبعض الاخر يقاوم سلطة العدل . ففي حين يقود الفلاسفة والحكماء والأولياء والثوار الشجعان حركة المقاومة للسلطة الظالمة ، فان الطفيليين ، والانتهازيين ، والفاسدين يقودون حركة في الاتجاه المعاكس ، تنخر وتهدد بنيان السلطة العادلة ، وتتربص بالحاكم العادل .
ولم يكن على الإطلاق ، "ضحايا " السلطة من الحكام الظالمين ، باقل من ضحاياها من الحكام العادلين . بل تجد ادوات الدولة والسلطة حين تقع بيد الظالم ، أكبر قدرة في اخضاع الناس ، وإطالة امد الحكم ، منها عندما تقع بيد الحاكم العادل ، لاختلاف طبيعة استخدام وتوظيف هذه الأدوات المحايدة .
لذلك تجد ان عمر من نكره ، ودولة من نكره ، اطول من عمر من نحب ودولة من نحب !
اليمين العراقي يريد علي بن ابي طالب ، واليسار العراقي يريد عبد الكريم قاسم ، وكلاهما يكره الحجاج بن يوسف وصدام حسين ، لكنهم لم يمهلوا الامام علي ان يحكمهم اكثر من أربع سنوات ونصف ، ولا الزعيم قاسم الا مثلها ! بينما حكمهم الحجاج عشرين عاماً ! وصدام ثلاثة وعشرين !
أيهما يا ترى ، في علم الاجتماع السياسي يحتاج الى طاقة وأستعداد اكبر : تحمل العدل ام تحمل الظلم ؟
ان خطاب التنزه عن السلطة ، يستبطن تدنيسها ، وهو خطاب سلبي ، يستعيد الرهبانية والتصوف كحركة اجتماعية انعزالية تغيب وتتلاشى ، مقابل حضور السلطة وفعلها المؤثر . لكن الدولة الحديثة ليست كالدولة القديمة ، فقد تطورت بنيتها وهويتها وطبيعة مهامها ، تطوراً جوهرياً لا يتيح للشعوب ان تحيا خارج إطارها العام ، او خارج تنظيمها للنشاط البشري .
يقول فقهاء الاسلام : ان الماء والاستحالة من المطهرات . والسلطة في العراق اليوم يكفي في تطهيرها الماء ، لا ان تستحيل الى فوضى .
*
اضافة التعليق
فريقنا سيء .. ولكن ماذا عن سوء الفيفا والاتحاد الآسيوي، والسعوديين ؟!
ترامب يشرُّم أُذن و( تراچي ) شَرْم الشيخ ..
كيف نتخلص من مرض السكر، ونفوز على السعودية ونتأهل إلى كأس العالم ؟!
عبد الحليم حافظ وعبد الجبار الدراجي و(المرشحون الخردة) !!
رايح يا رايح وين ياسامي مسيعيده ؟!
من رئيس العرفاء مچيسر چاسب الى رئيس الوزراء محمد شياع ..!