بغداد- العراق اليوم:
في الأول من حزيران عام 1980 حل المغرب في مدينتنا الطيبة -مدينة الثورة -ولم تخطف على دروبها خطوات شقيقي أبو سلام، ثم جاء المساء الداكن، ولم يأت ابو سلام الى البيت، حيث يعود اليه كل مساء، ثم انتظرت العائلة قدومه في أول ساعات الليل دون جدوى، فتناولنا العشاء اضطراراً بدونه، فكان طعمه مراً في أفواه بعضنا، وبلا طعم في أفواه البعض الآخر، رغم حلاوة أشياف الرقي المبردة في صينية كبيرة، كانت قد وضعت في باحة البيت منذ تشابك خيوط المساء الأولى.
لقد كانت العائلة قلقة جداً ..
وفي تلك الليلة نام الجميع الاَّ أمي، وزوجته أم سلام، فقد كان لكل منهما ما يبرر قلقهما..
في اليوم الثاني، نهضنا من فراشنا، على أمل أن يكون ابو سلام قد عاد متأخراً في الليل، فنعاتبه على ما فعل بنا ليلة أمس، لكننا فوجئنا بوجه أمي وقد أرعبه الخوف والسهر والدموع.. ففهمنا الإجابة!!
ارتديت ملابسي على عجل، ورحت أبحث عنه في بعض الأماكن التي أدري أنه يتردد اليها في الأيام العادية، ثم مضيت الى بعض رفاقه، وأصحابه اسألهم عنه، وكان الجواب واحداً ..
مضى اليوم الأول لغيابه، والثاني، فذهبت الى محافظة الكوت، حيث كان يذهب كل اسبوع الى هناك لقضاء بعض اعماله التجارية، والحزبية ايضاً، إذ أني اعرف أن له علاقة حزبية، وما اعماله التجارية التي نقل بعضها الى الكوت الا للتغطية على نشاطه الحزبي.. فرحت أولاً الى الشهيد القاص حميد ناصر الجيلاوي، وهو صديق أبي سلام الشخصي، وكذلك الرفيق الراحل هاشم جلاب، وصديقه المقرب حسين الكببچي، وغيرهم، لكني لم أحظ بجواب شاف منهم ..
عدت الى بغداد، والحزن يدفنني دفناً، لقد أيقنت بغريزتي الأخوية أن أبا سلام معتقل، وأن أمل خروجه من السجن سالماً ضعيف جداً.. ليس لأن البعثيين مجرمون وقتلة وسفلة لا يرحمون، ولا يفرقون فحسب، إنما لأني أعلم أن أبا سلام صلب وعنيد ولن يتنازل عن عقيدته الشيوعية، أو يعترف لهم على اسم رفيق، أو صديق قط.. وقد كانت الأجهزة الأمنية والحزبية البعثية تطلق آنذاك سراح كل من يتنازل عن انتمائه الشيوعي، ويتعهد خطياً بمغادرة التنظيم الحزبي الى الأبد، بعد أن امتلأت المقابر الجماعية بجثث الضحايا، وازدحمت السجون بعشرات الآلآف من الشيوعيين الأبطال..
بعد اسبوعين من غياب أخي، تذكرت مطعم أكد في ساحة النصر ببغداد، حيث كان أبو سلام يحب أن يتناول غداءه فيه، كما أن صاحب المطعم صديق مقرب منه، فذهبت اليه، وحين اقتربت من صاحبه، همست في أذنه: (أنا أخو أبو سلام، هل تتذكرني، فقد جئت معه مرتين)!
فعرفني، ونهض نحو الأوفيس، ثم أومأ برأسه أن أتبعه، فمضيت خلفه، وحين دخلت، أغلق الباب الصغيرة، ثم قال لي: ( أخوك بطل .. والمسيح أخوك بطل) !!
قلت كيف: ؟
قال: ( لقد كان ابو سلام يتناول غداءه ظهراً قبل اسبوعين بصحبة اربعة من اصحابه، وفجأة اقتحمت قوة من الأمن صالة المطعم، وقد ركض ثلاثة من هذه القوة الأمنية الى أخيك -الذي كان يتحدث، وكأنه مسؤول حزبي لهذه المجموعة الصغيرة، وقد وضعوا مسدساتهم على رأسه، دون غيره، لكن اخاك حاول التخلص منهم، فسحب سلاحه من حزامه، إلاَّ أن احد الواقفين خلفه ضربه بالمسدس على مؤخرة رأسه، فوقع على الأرض والدماء تنفر في الحال من رأسه، بما فيها جبهته، لكنه ظل يقاومهم، ويضرب بهم رغم سوء حالته، ورغم تزاحم رجال الأمن حوله. ولعل الضربة التي تعرض لها على رأسه من قبل أحد رجال الأمن هي التي تسببت بفقدان توازنه وسهلت عملية اعتقاله، والاَّ لما تمكنوا منه قطعاً، فقد رأيته بعيني كيف يزأر بهم، والدماء تغطي وجهه، ورأيتهم كيف يحيطون به مذعورين، وكأنهم يحيطون بأسد غاضب.
لقد سهلت تلك الضربة كما يقول صاحب مطعم أكد، مهمة رجال الأمن الثلاثة في الوثوب نحوه، ومن ثم وضع الأصفاد بيديه، بعد أن أخرجوا المسدس من تحت حزامه.. وهم خائفون.
ويكمل صاحب مطعم أكد حديثه لي قائلاً:
لقد كان المطعم وقتها خالياً من الزبائن، إلا طاولتين أو ثلاثا لاغير، لكن الجالسين عرفوا أن هذا الرجل المدمى والمخطوف من قبل القوة الأمنية بطل حتماً، وأن رجال الأمن يعرفون أي رجل يعتقلون، لذلك توجهوا بكل قوتهم، وعددهم نحوه، ولو لم يكن كذلك لما اجتمعوا حوله دون غيره من رفاقه..
بعدما تأكدت مما قاله الرجل، غادرت المطعم، وأنا اتلفت يميناً و شمالاً، والدموع تملأ عينيَّ، ولما وصلت بيتنا، أخذت والدي رحمه الله الى ( الديوانية).. وقلت له بصوت مخنوق: حجي خيون معتقل..
فصفق يدا بيد وقال: انه ابو خيون .. أبو سلام راح !!
فقلت له : نعم حجي .. ابو سلام راح !!
ولم يخطئ والدي، فخيون راح، ولم يعد حتى هذه اللحظة ذهب الى قرب الله، حيث يكون هناك الأنبياء والمقدسون، والذين يستحقون ان يكونوا بقرب الله ..
*
اضافة التعليق