سقوط الدول حين تفقد السلطة معنى القائد

بغداد- العراق اليوم:

تسقط الدول لا حين تهزم عسكرياً فقط، بل حين تفقد روح القيادة، وحين تتحول السلطة من مشروع وطني جامع الى إدارة باهتة بلا رؤية ولا شجاعة. فالتاريخ يعلمنا ان اخطر مراحل الدول ليست لحظات الصراع، بل لحظات الفراغ القيادي، حين يغيب القائد وتحضر الوظيفة، وحين تستبدل الإرادة السياسية بالحسابات الضيقة.

الدولة لا تقوم على التوازنات وحدها، ولا تستمر بالترضيات المؤقتة، بل تبنى على قيادة تمتلك مشروعا، ورؤية، وقدرة على الحسم، وحساسية عالية تجاه الحقوق والمصالح العامة. 

وعندما تتحول القيادة الى مجرد ادارة يومية، بلا استراتيجية، وبلا قدرة على المناورة، وبلا جرأة في مواجهة التحديات، تبدأ ملامح الانهيار بالتشكل ببطء، حتى وان بدا المشهد مستقراً من الخارج.

وفي المشهد العراقي، وبعد اكثر من عقدين على التغيير، تبرز اشكالية خطيرة لا يمكن تجاهلها. 

اشكالية تتعلق بطبيعة فهم السلطة نفسها، وبالطريقة التي يجري فيها التعامل مع موقع رئاسة الوزراء بوصفه موقعا تنفيذياً محدودا، لا مركزا قيادياً يفترض ان يدير الدولة ويحمي توازناتها ويقود مشروعها.

الاخطر من ذلك، ان الفاعل السياسي الشيعي، الذي يفترض به ان يكون الحاضنة الطبيعية للحكم بعد سنوات طويلة من الاقصاء، بات اليوم يبحث عن تفكيك مفهوم الحاكمية بدلاً من ترسيخه.

 لا يسعى الى بناء قيادة قوية مكتملة الشروط كما رسمها الدستور، بل يعمل في كثير من الأحيان على تجزئة السلطة، وتقويضها من الداخل، وتفريغها من مضمونها، وتحويلها الى مواقع موزعة خاضعة للتوازنات والترضيات.

هنا تتحول رئاسة الوزراء من مركز قرار الى وظيفة عابرة، ومن موقع سيادي الى منصب يتداوله الضعفاء، ويحلم به من لا يملك مشروعا ولا رؤية.

وتصبح الدولة اسيرة حسابات ضيقة، ويجري التعامل مع القيادة بوصفها خطراً محتملاً لا ضرورة وطنية.

لكن السؤال الاهم يبقى: لماذا يحدث ذلك؟

السبب الجوهري يكمن في الخشية من تشكل مراكز قوة حقيقية داخل البيت الشيعي نفسه. 

الخوف من قائد يمتلك شرعية شعبية، او قدرة على فرض هيبة الدولة، او رؤية مستقلة لا تخضع بالكامل لمنطق المحاصصة. هذا الخوف يدفع الى تفضيل الضعيف، لا لانه الافضل، بل لانه الأسهل في الاحتواء، والاقل قدرة على التمرد، والاكثر قابلية للتطويع.

غير ان هذا الخيار، وان بدا مريحاً على المدى القصير، يحمل في طياته كارثة كبرى. 

فهو لا يضرب فكرة الدولة فقط، بل ينسف كل التضحيات التي قدمها شيعة العراق عبر قرون من الاقصاء والقمع والحرمان. 

ويحول الانتصار السياسي الى عبء، والسلطة الى عبث، والانجاز الى فرصة ضائعة.

ان البحث عن الحاكم الضعيف ليس دهاء سياسيا، بل انتحار بطيء.

 وهو طريق يقود حتما الى تفكك القرار، وضياع الهيبة، وانهيار الثقة بين الشعب والدولة.

 وحين تفقد الدولة هيبتها، لا تعود قادرة على حماية حقوق مواطنيها، ولا على صون كرامتهم، ولا على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

الى الذين يبحثون عن الضعفاء ليحكموهم، احذروا، فإن ذلك ليس ضمانة للاستقرار، بل وصفة مؤكدة للدمار،  وهو ليس حفاظا على الوحدة، بل مدخل لتفتيتها. وليس حرصاً على التوازن، بل تقويض له من جذوره.

فالدول لا تبنى بالهشاشة، ولا تستمر بالخوف، ولا تنهض بالادارة الباردة. الدول تبنى بقيادة، برؤية، وبشجاعة اتخاذ القرار. وحين يغيب ذلك، تبدأ الامم بالسقوط… حتى وهي واقفة.