بغداد- العراق اليوم:
الدكتور ليث شبر
لا يعنيني هنا شخص ترامب بقدر ما يعنيني هذا المشهد العراقي الذي يتكرر: كلمة واحدة تُقال في السياسة، فنكتشف بعدها أنّ مشكلتنا ليست مع الأشخاص بل مع المفاهيم نفسها. قال ترامب إنّ محمد شياع السوداني صديقه، وإنّ العراق رشّحه لجائزة نوبل للسلام، وإنّ بغداد بعد الضربة على إيران أصبحت “أكثر صداقة” مع واشنطن. وهنا ضجّت الشاشات ومنصات التواصل، لا لتحاكم هذا الخط السياسي أو ذاك، بل لتحاكم كلمة واحدة: الصداقة.
بلا شك لا نستغرب من هجوم الأطراف التي تدعمها إيران ومنهم أشخاص تزيوا بالاستقلال والمعارضة لكن اللافت أن جزءًا من الذين هاجموا السوداني على “الترشيح” هم أنفسهم الذين ملأوا الدنيا حديثًا عن الدولة المدنية، والعلاقات المتوازنة، والخروج من سياسة المحاور. فجأة، أصبح مجرّد بناء علاقة شخصية إيجابية مع رئيس أكبر دولة في العالم تهمة تستحق السخرية والشتيمة، وكأن المطلوب من رئيس وزراء العراق أن يبيت ليلته وهو يكتب تغريدات عدائية، لا أن يفاوض ويهادن ويبني جسورًا.
إذا كنّا نريد عراقًا طبيعيًا، فهل نتوقع أن تُدار علاقاته الخارجية بلغة الثأر؟ إذا كنّا نطالب بسيادة حقيقية، فهل تتحقق بسياسة الباب المغلق أم بسياسة الباب المفتوح على الجميع؟ وإذا كان من حق أي حكومة أن ترى في هذا الرئيس أو ذاك شريكًا أو وسيطًا أو بوابة لمصالحها، فلماذا نسمح لأنفسنا أن نحاسبها على شكل الجملة لا على جوهر السياسة؟
يمكن أن نختلف كثيرًا مع السوداني في ملفات داخلية: الفساد، الإدارة، البيروقراطية، المحاصصة، أداء بعض الوزارات. هذا نقد مشروع وضروري. لكن تحويل “الصداقة” إلى عنوان للهجوم يكشف أزمة أعمق بكثير من شخص رئيس الوزراء؛ أزمة في طريقة فهمنا للدولة نفسها. الدولة لا تُدار بشعور الغضب، بل بحسابات المصلحة. وفي عالمٍ تتشابك فيه الجبهات من أوكرانيا إلى غزة إلى الخليج، لا يملك العراق ترف أن يكون عدوًا للجميع، ولا يستطيع أن يعيش على ذاكرة الحرب وحدها.
ثم إنّ الترشيح لنوبل في عالم السياسة ليس خبرًا خارقًا؛ دول مسؤولة أعلنت رسميًا نيتها ترشيح ترامب للجائزة في ملفات أخرى، بينها دول تختلف معه في ملفات عديدة لكنها تفهم معنى أن تستخدم أدوات النظام الدولي كما هو، لا كما تتمنى. فلماذا يُسمح للآخرين أن يتعاملوا مع الجائزة كأداة سياسية، ونُحاكم نحن إذا استُخدمت بالطريقة نفسها؟
الذين سخروا من “صداقة” السوداني مع ترامب، ماذا يقترحون بديلًا؟ هل يريدون قطيعة كاملة مع واشنطن ونحن نعيش على اقتصاد مرتبط بالدولار، وعلى منظومة أمنية لا تزال تحتاج إلى الدعم الدولي؟ أم يريدون خطابًا ثوريًا في الإعلام، وتوسّلًا هادئًا في الغرف المغلقة، كما فعل كثيرون قبل السوداني وبعده؟
من حقّ المعترض أن يقول: لا أوافق على هذا الخيار، أراه مبالغة في التقارب، أراه رهانًا خاطئًا. لكن ليس من حقه أن يقدّم نفسه ممثّلًا للمدنية وهو يرفض أبسط أدوات السياسة: بناء الصداقة حين تنفع الوطن. الفرق بين الدولة واللا دولة أن الأولى تعرف متى تستخدم القطيعة ومتى تستخدم الجسر، بينما الثانية تعيش على رد الفعل، تصرخ كثيرًا ثم تجلس على الطاولة نفسها التي شتمتها طوال اليوم.
أنا لا أدافع هنا عن كل سياسات السوداني، ولا أبرّئ حكومته من الأخطاء البنيوية التي يعرفها الجميع، لكنني أدافع عن فكرة بسيطة: أن يكون لرئيس الوزراء أصدقاء في عواصم القرار ليس عيبًا؛ العيب أن لا يعرف ماذا يفعل بهذه الصداقة. أن يختار الصداقة بدل العداء ليس تنازلًا؛ التنازل الحقيقي حين يتحول العراق إلى تابع بلا إرادة، لا حين يرشّح رئيس وزراءه شخصًا لجائزة رمزية في لعبة دولية معقدة.
النقد الجاد لا يخاف من الصداقة، بل يخاف من غياب المشروع. مشكلتنا ليست أن السوداني بنى علاقة مع ترامب، بل أننا لم نبنِ بعدُ عقلًا سياسيًا يفهم أن الدولة لا تُختصر في مشهد، ولا في تصريح، ولا في جملة مقتضبة تُقتطع من سياقها. من يريد أن يعارض فليعارض مشروع السوداني برمّته، سياساته الاقتصادية، طريقته في إدارة التوازن الإقليمي، مقاربته للحشد والفساد والانتخابات. أمّا الصداقة، فهي في النهاية أداة من أدوات السياسة؛ يمكن استخدامها لصالح العراق أو ضده. وهنا بالضبط يجب أن يكون النقاش، لا في حفلة السخرية التي تُسقط عن “المدنيين” آخر ما تبقّى لهم من منطق.
*
اضافة التعليق
السوداني في البصرة لافتتاح المقطع الاول من طريق التنمية
ائتلاف النصر: العبادي يرفض تولي منصب رئيس الوزراء
امريكا تفتح اكبر قنصلية في اربيل
تصريح السوداني بتريليون دولار ..!
غالوب: 69 بالمائة من العراقيين يؤيدون أداء رئيس الوزراء محمد شياع السوداني
النزاهة: الحبس الشديد بحق مدير بلديات الأنبار سابقاً وإلزامه بتسديد 32 مليار دينار