عبد الحليم حافظ وعبد الجبار الدراجي و(المرشحون الخردة) !!

بغداد- العراق اليوم:

افتتاحية جريدة الحقيقة 

فالح حسون الدراجي

تمرُّ هذه الأيام الذكرى العاشرة لرحيل الفنان العراقي الكبير عبد الجبار الدراجي، الذي توفي عن عمر يناهز الثمانين عاما، بعد صراع عنيد، وشرس مع المرض الخبيث.. والمؤلم أنه مات غريباً في إحدى مستشفيات عمان دون أن يرى بلده العراق منذ سنوات بعيدة.. ودون أن يودع صديقاً واحداً من أصدقائه.

وبعيداً عن كل العواطف الشخصية المعتادة في مثل هذه المناسبات، وددت أن أستذكر هذا الفنان الموهوب بطريقة مختلفة.. طريقة تتحدث عن منجزه الثر، وعن جذره الإبداعي، ومحيطه المتنوع

وكينونته المتخمة بالتميز.. فهذا الإنسان والفنان المختلف عن جميع فناني جيله وبيئته، يمتاز بما يؤهله لأن يغني مع عبد الحليم حافظ في حفلة واحدة، وليلة واحدة، وقاعة واحدة.. نعم لقد غنى الدراجي وعبد الحليم حافظ سوياً في حفلة واحدة بدمشق، بل إن عبد الحليم خرج من غرفة الاستراحة الخاصة بالفنانين كي يستمع لعبد الجبار، ويستمتع بما يؤديه هذا الفنان العراقي.. ولما انتهى الدراجي، استقبله عبد الحليم بالأحضان والقبل، مهنئاً ومعجباً بما قدمه من جمال وروعة وفن عراقي راق، وهو يقول له بفرح صادق وحقيقي: أيه الحلاوة دي يا أستاذ؟! 

فكتبت إحدى الصحف السورية في اليوم التالي عنواناً عريضاً يقول:-

 (عبد الحليم يُقبل رأس الغناء العراقي)!!

قد يسألني احد الأخوة القراء، ويقول لي:- بماذا يتميز المطرب الدراجي عن أقرانه المطربين؟

فأقول له: يتميز عبد الجبار الدراجي عن أبناء جيله بنقاط عديدة.. منها ان هذا الرجل الجنوبي، المتجذر من جذور عمارية، والمولود في بغداد الكرخ، والمترعرع في الموصل وكركوك وبغداد، يكتب الشعر الغنائي بأحلى ما يكون، وسجله في التأليف الغنائي يجبرك على أن توقع له صك الإعجاب بمنجزه الفني الكبير.. كما أنه يلحن أروع الألحان، رغم أنه لم يدخل معهداً موسيقياً، ولم يتلقَ درساً واحداً في دروس الموسيقى واللحن. ولعلّ من المفارقات التي تروى عنه انه دخل الإذاعة لأول مرة العام 1958 ووقف أمام لجنة تضم عباقرة الموسيقى والغناء آنذاك أمثال جميل بشير، وروحي الخماش، وجميل سليم، فأذهلهم بما لديه من معرفة، ووعي بأصول الغناء، وهنا سأله الفنان الكبير جميل بشير عن المعهد أو المدرسة الموسيقية التي استقى منها علومه الموسيقية، فضحك عبد الجبار وقال:

والله أستاذ تعلمتها بمدرسة الحب !!

فقال له جميل بشير مستغرباً:

مدرسة الحب؟.. ليش أكو مدرسة موسيقية بهذا الاسم؟

فأجابه الدراجي: أستاذ آني أحب الغناء والموسيقى جداً، لذلك قرأت الكثير عنهما، وبحثت وما زلت أبحث في مصادرهما، وأركض خلف روائعهما في كل مكان، (واليحب أستاذ يركض وره محبوبته)!

فضحك أعضاء اللجنة وصفقوا لهذا الجواب.. فكان ذلك العام، عام تسجيله مطرباً رسمياً في الإذاعة العراقية التي لم يكن من السهل قبول أي مطرب فيها..

ومراجعة بسيطة للأعمال التي كتبها ولحنها وغناها عبد الجبار الدراجي، تضعنا في دهشة لمنجزه الفني الكبير. فأغنيات رائعة مثل: (تانيني صحت عمي يجمال) (وعلمتني اشلون أحبك) (وشگل للناس لو عنك يسألوني)، و(صبرتني بكلمة حلوة من مشيت)، وأغنية (على ايدي چويت بنار)، (وعندي صورة)، و (دكتور جرح الأولي عوفه).. كما غنى من الحانه عدد كبير من المطربين والمطربات مثل فؤاد سالم، الذي غنى له (گالت احبك)، وقحطان العطار الذي غنى له (على ايدي جويت بنار).. وانوار عبد الوهاب التي غنت من كلماته والحانه أغنيتها الحزينة (عندي صورة وصاحب الصورة بعيد). اضافة الى سعدي البياتي وسعدي توفيق اللذين قدما الكثير من أعماله الغنائية الرائعة، كذلك الفنانة مائدة نزهت، والفنانة عفيفة اسكندر وغيرهما..

ثمة قضية أردت قولها هنا، وهي إن عبد الجبار الدراجي القادم من أعماق الريف الجنوبي لايجيد الحديث باللهجة الجنوبية مطلقاً، فلسانه بغدادي وثقافته (مدينية ومدنية) تماماً.. وحتى الحانه، فيها مذاق بغدادي مُطعم بنكهة جنوبية.. فهو حين يغني: (هذا حد قصة هوانه.. كلمن يروح لمچانه) لايلفظ حرف الـ (چـ) كما يلفظ من قبل الجنوبيين، إنما يلفظه بطريقة مختلفة تماماً..

لقد أردت أن أقول إن هذا التزاوج البيئي، والتثقيف المنوع في شخصية الدراجي (العامة والفنية)، خاصة وانه قرأ منذ طفولته لكبار الكتاب في العالم، بدءاً من نجيب محفوظ وانتهاءً بغوركي، والبرتو مورافيا قد نسج له ثوباً فنياً خاصاً به لا يشبهه ثوب فني آخر..

الطريف أن أحد الزملاء سألني وأنا أكتب هذا المقال معاتباً بالقول: إنك تكتب افتتاحية عن مطرب بسيط، وتهمل المرشحين للانتخابات أمثال فلان وفلان وفلان وفلانة وفلانة؟

فقاطعته قبل أن يكمل الأسماء، وقلت له:

وعيونك، عندي ( كوبليه ) من أغنية علمتني شلون أحبك تسوه ثلثين من المرشحين الخردة .. أكرر ( المرشحين الخردة)، واليزعل من المرشحين يعني اعتراف رسمي بأنه مرشح خردة.!!

ها اكو مرشح يعترض ؟!

الفنان الراحل عبد الجبار الدراجي