رايح يا رايح وين ياسامي مسيعيده ؟!

بغداد- العراق اليوم:

افتتاحية جريدة الحقيقة 

فالح حسون الدراجي

فُجعَ العراقيون قبل يومين برحيل ابن العمارة وفتى الكحلاء المغترب، مطرب الوجع العراقي السومري، الممتد من سمفونية الحزن وأنين (البريسم) في أغنية (بين جرفين العيون)، التي ترجم أحزانها الشاعر الكبير مهدي عبود السوداني، وصاغ وجعها الملحن الاستثنائي كمال السيد، مروراً بقصة الألم في ( رايح يارايح وين ) التي أبدعها الشاعر المناضل اسماعيل محمد إسماعيل، ولحنها كمال السيد أيضاً.. وليس انتهاءً بجرح صويحب، تلك الملحمة الشعرية، الشيوعية، الميسانية، التي نزف في حروفها وصورها شاعر العراق الكبير مظفر النواب كل أساه وقهره وضيمه.

ورغم أن الفنان والمناضل سامي كمال غادر العراق قبل أكثر من اربعين عاماً، ورغم أن الكثير من الأجيال الجديدة لم تتح لها فرصة التعرف على روعة منجزه الإبداعي بالصوت والصورة والحضور المباشر، بسبب إقامته في الخارج اضطراراً، لكنّ ملايين العراقيين قد شعروا بالحزن لسماعهم نبأ رحيله المؤلم.

ولم يكن هذا الحزن بسبب فقد فنان وطني فذ، ومبدع كبير فحسب، إنما لأنه رحل غريباً حزيناً موجوعاً، دون أن يودع وطنه وأحبته ومدينته، ومسقط رأسه (مسيعيده)، ولأنه رحل ودفن في بلاد غريبة وبعيدة وباردة، كما رحل ودفن قبله رفاقه كوكب حمزة وكمال السيد وحميد البصري وفؤاد سالم وفلاح صبار، ومظفر النواب وكذلك الجواهري والبياتي وكريم العراقي وغيرهم من نجوم الوطن، وأقمار الإبداع ..

ولأن مساحة إبداع وعطاء سامي كمال واسعة متنوعة بحيث يصعب عليَّ تغطيتها بمقال واحد ومحدود، فإني سأتناول هنا جانباً واحداً فقط من حياة ونضال ووفاء ( أبي فريد)، لأني أعتقد ان الكثير من القرّاء قد لا يعرفون هذا الجانب.. وأقصد به جانب العشق الذي يحمله سامي كمال لـ( العمارة) وحجم الوفاء الذي أظهره لقضاء الكحلاء (مسيعيده).. فالرجل لم ينسَ العمارة يوماً، ولم يتخلَّ عن حلم العودة إلى مسيعيده، فكان يحملهما في حنايا قلبه أينما يرحل وأينما يكون.. فكان بحق سفيراً أميناً لتراث العمارة، وشجن الكحلاء، ونواعي نسائها..

وهنا أتذكر موقفاً حصل معي بعد أن نشرت إحدى مقالاتي عن ( العمارة )، حيث اتصل أحد الأصدقاء بي مثمناً ومادحاً المقال، ومحيياً ( وفائي ) لهذه المدينة الأم .. وقبل أن يختم صديقي اتصاله سألني قائلاً: مَن مِن شعراء وفناني العمارة المغتربين أوفى منك للعمارة يافالح ؟

قلت له: إذا كنت أستحق فعلاً وصف الوفاء لمدينتنا العمارة، فهناك حتماً الكثير من فناني وشعراء ميسان  الذين يستحقونها أكثر مني، فمنهم من جعلها هوية وأيقونة بغربته، ومنهم من تغنى بها في منفاه، وأنشد لها بكل ما في قلبه من حب وأناشيد ومواويل وقصائد، ناقلاً فنها وتراثها وعطرها وصورها بفخر إلى بلدان الغرب والشرق ..

قال: وهل تذكر بعضاً من هؤلاء العماريين الأوفياء ؟

قلت: نعم، أولهم طائر الجنوب، الشاعر الكبير عيسى الياسري، الذي ملأ منفاه ( الكندي ) بقصائد الحب والشوق للعمارة عموماً، و لمسقط رأسه وملعب صباه (كميت) خصوصاً، لاسيما نهر ( أبو بشوت) الذي جعل منه عيسى الياسري أعظم من نهر ( المسيسيبي ) وأشهر منه في أمريكا وكندا ..

أما الفنان الآخر فهو فتي العمارة، وعندليب الكحلاء ( مسيعيده) سامي كمال ..

فأبو فريد لايعزف لحناً إلا وكان للعمارة عطر فيه، ولا يشهق بموال إلا وتجد لوجع الكحلاء نصيباً به.. سامي كمال بصمة ميسان اللحنية والغنائية، وصدى أنين المعدان، رغم أنه من أسرة مدينية ميسورة، إذ كان والده ( مناتي) أحد أشهر خياطي العباءة العربية في مسيعيدة، بل وفي نواحي وأقضية محافظة العمارة قاطبة ..

وللأمانة، فأني كلما سمعت أغنية (جرح صويحب) التي أبدع سامي بتلحينها، وغنائها، كلما تأكدت من حجم وفائه لمدينة العمارة والكحلاء، فالوفاء ليس أن تذكر اسم مدينتك على لسانك فحسب، أو أن تبكي بذكرياتها، وتشتاق لعطرها، إنما الوفاء الحقيقي برأيي يكمن في مدى تأثرك بها، وبفنونها وحكايتها وناسها ومواويلها، وأيضاً بنقل تراثها معك، فتصوغ من روعة هذا التراث، روائع جديدة، وتبني على أساسه بناءات إبداعية مكملة، بحيث تتناغم مع روح مدينتك وتراثها الأصيل.. وهذا ما فعله سامي كمال في كل أعماله، وعلى مدى ستين عاماً، حيث قضى ثلاثة أرباعها في المنفى  .. 

لقد عايشت وتلمست وفاء سامي كمال لجذوره الأولى بنفسي، ولم يقل لي أحد.. إذ كنا في مطلع سبعينيات القرن الماضي، نلتقي باستمرار في بيت الراحل الكبير كاظم إسماعيل الگاطع، وكان الغائب - الحاضر - في قلبي كريم العراقي معنا في جميع تلك الجلسات.. حتى أننا أسسنا مجموعة تشبه الرابطة، ضمتنا نحن الأربعة ومعنا الشاعر الراحل كاظم السعدي، وكنا نفكر بتوسيعها لتضم شعراء آخرين مثل الشاعر الجميل رياض النعماني، وفنانين آخرين مثل الفنان الباهر قحطان العطار، وكمال السيد والمبدع فؤاد سالم. لكن الفكرة لم تنجح وقتها، فتفككت مجموعتنا بعد سنة تقريباً، لكن اواصر محبتنا ظلت قوية، رغم عواصف الزمن الشديدة التي ضربتنا بقوة !

كان آخر لقاء لي بأبي فريد العام 2019 في مدينة لوند السويدية، وتحديداً في الحفل الاستذكاري الذي أقيم بمناسبة الذكرى الخمسين لاستشهاد القائد الشيوعي الفذ ستار خضير.

وكان سامي كمال موجوداً بصوته وألحانه وشخصه، ومعه بناته الرائعات، حيث أنشدن مع أبيهن أغنيات للحزب الشيوعي وللشهداء الميامين، ولجرح صويحب الذي لم يلتم ولم يلتئم رغم (عطابات) وضمادات السنين الطويلة.. وأذكر حين ألقيت قصيدتي في تلك المناسبة، وغادرت منصة ذلك الحفل، كان سامي كمال أول من احتضنني وقبلني فتبللت وجنتانا بدموعه الوفية والنبيلة.. والشيء مثله حصل مع الفنان والمناضل طالب غالي والشاعر رياض النعماني، وأخوة وأسرة الشهيد ستار خضير، وبقية ذلك الحضور ..

لقد كانت دموع سامي كمال دليلاً قاطعاً على وفاء هذا ( العماري) الجميل ..

الفنان والمناضل سامي كمال