بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
عندما بدأت هجرة أهلنا الجنوبيين إلى العاصمة بغداد أواخر خمسينيات القرن الماضي، كنت مع عائلتي ضمن هذه المواكب المهاجرة.. وبصراحة موجعة أقول إننا لم نجد في بغداد أهلاً وأقرباء، ولا أبواباً مفتوحة أمامنا، ولا وجوهاً راضية بقدومنا، بل على العكس من ذلك، فقد تعامل معنا الكثير من البغداديين بجفاء وقسوة وعدم احترام يصل حد الاحتقار أحياناً، ناهيك من نظرة الشك والريبة التي قوبلنا بها، وكأننا لصوص جاؤوا لسرقة بيوتهم.. ولأن آباءنا وأعمامنا كانوا أميين، ولا يملكون المهارات المهنية أو الكفاءات الفنية العالية التي تؤهلهم لإشغال وظائف في الدولة .. فقد اشتغل بعضهم في أشغال واطئة مثل ( زبّال وكنّاس) وحارس ليلي، أو حدقچي، أو عامل طين ( عمّالة )، أو حتى حمال في الأسواق.. ولا أكشف سراً لو قلت إننا تعرضنا في تلك السنوات إلى حملات تنمر وسخرية واستهزاء لم تتعرض لها أقوام غيرنا، بعضها كان مدروساً ومنظماً وبعضها كان عفوياً.. وعلى سبيل المثال، فقد كنت في العام 1960 طالباً في مدرسة الحارث الابتدائية في الاعظمية / راغبة خاتون / وقد سألني المعلم يوماً عن أفراد أسرتي، فقلت له إن عائلتي تتكون من أبي وأمي وأخوتي و ( يدتي) وأعني جدتي، فضج طلاب الصف بالضحك والتعليق، ولم يسمح لي أحد منهم أن أوضح بأنني قادم تواً من ريف العمارة الفلاحي، وإن حرف الجيم نلفظه هناك ياءً، وهذا ليس عيباً يستحق كل هذا الضحك. والمصيبة أن قصتي هذه (طشّت) حتى صرت مادة للتنمر والسخرية من قبل جميع طلاب المدرسة !! وكي اكون منصفاً فإن ثمة الكثير من البغداديين الساكنين في مناطق شعبية عديدة مثل الكريعات والشواكة والكفاح وباب الشيخ وبعض محلات الكرادة كالزوية وغيرها، تعاملوا معنا معاملة طيبة تختلف عن معاملة أقرانهم في المناطق الأخرى، إذ لم ينظروا لنا نظرة ازدراء، أو يسمعونا ما لم نحب سماعه من تعليقات مهينة، وساخرة.. إن معاناة آبائنا تلك لم تفت في عضدهم قطعاً، فقد كافحوا رغم كل ذلك، كفاحاً مريراً في العاصمة التي هربوا اليها من جحيم الظلم والعوز والمرض، وحفروا في صخرها حتى استخرجوا لنا من صخر المعاناة ينابيع ماء صاف ارتوينا منها نحن الأبناء، وكبرنا حتى اشتد عودنا.. وفي المقابل فقد كنا اوفياءً لمعاناة وعذابات وتضحيات آبائنا الشريفة، وحققنا ما كانوا يتمنونه، حين نجحنا وأبدعنا بامتياز في اثبات وجودنا وذواتنا وقيمتنا، فدخلنا (بغداد) المقفلة، بمفاتيح مواهبنا الرياضية والأدبية والفنية، ونلنا بشهاداتنا العلمية العالية وقدراتنا الإبداعية الكبيرة، مواقع ومناصب عليا في الدولة، لم يكن يحلم بها آباؤنا الكرام حتى في المنام .. وفي هذا السياق اتذكر قولاً للأستاذ مدحي المندلاوي الكاتب والوزير السابق في حكومة الاقليم والذي رد فيه بفخر على مهنة أبيه قائلاً: لقد كان والدي حمالاً، واعتزازاً به وبعمله وبالعرق الشريف الذي بذله من اجلي كي أصل إلى ما أنا فيه الآن، فقد علقت ( الچبنة) التي كان يرتديها في عمله ( بالحمالة ) فوق رأسي بصالة الاستقبال، فيراها كل زائر، وأنظر اليها كلما دخلت البيت، حتى صارت هذه (الچبنة) تعويذتي، او قل الأيقونة التي تفتخر بها كل عائلتي ! إذاً هكذا يرى أبناء الفقراء والكادحين صور آبائهم المشرفة وهم يكافحون ويقاومون وينتصرون .. أما نحن أبناء مدينة الفقر والمعاناة، فقد أسقطنا بصبرنا وجهادنا معوقات مسيرنا في الحياة.. ومن بينها مصطلح (الشروگية) الذي أرادوا لنا أن ننشغل بوحله وعفونته إلى الأبد، رغم ان بعض المرضى مازالوا حتى الان يوصفوننا بالشروگية.. ولعل من المؤسف أن يكون بين هؤلاء المرضى شخصية سياسية ودينية شيعية مشهورة !! لكن، وبفضل إصرارنا الفذ طرنا عالياً، وعبرنا حدود مدينة الثورة المحصورة بين فكَّي السدة وقناة الجيش، لنحلق كالنجوم في أعلى المعالي، بل صرناً نجوماً فعلاً في الميادين الإبداعية جميعاً .. ففي ميدان الرياضة تجد أبناء الثورة في أول الصفوف وأعلى المراتب، وفي الشعر تجدهم في صدارة المشهد الشعري، وفي الرواية والقصة والمسرح والغناء والتشكيل والموسيقى تجد أبناء العمّالة والزبالين والحمالين سادة وأساتذة الساحات الإبداعية.. وقطعاً فإن عشر مقالات لن تكفي لذكر جميع أسماء المبدعين الكبار الذين أنجبتهم هذه المدينة المعطاء .. أما إذا ( أضيمت) الارض العراقية الحرة يوماً ما، ونادت على معين يعينها، وذائد يذود عنها، فستجد أبناء ( الثورة ) أول من يهرع ويستجيب لندائها .. ولو احتاج النضال الوطني إلى صف من المناضلين المضحين، فستجد ابناء الثورة- من شيوعيين وإسلاميين وغيرهم - في صدارة الموكب النضالي، والتاريخ يشهد لهم بذلك، وكذلك المقابر الجماعية تشهد لنضالاتهم حتماً .. ويقيناً إن أبناء مدينة الثورة الذين عبروا بحور الزمن، لم يعودوا اليوم ينظرون لذلك الماضي الذي أوجع آباءهم وآذاهم جداً، إنما -ولا ضير في ذلك- يحتاجون إلى شحن بطارية ذاكرتهم باستمرار، وتذكيرهم بتلك المعاناة، من اجل الفائدة والعبرة والدرس، وليس لإثارة المواجع وتفعيل الاحقاد والتفرقة لا سمح الله .. أنا أرى أن ما يجمعنا اليوم أكثر من الف جامع، بينما لا أجد مفرقاً واحداً يفرقنا وهذا هو المهم برأيي .. وللمزاح اختتم مقالي بما أرسله لي أحد الأصدقاء من أبناء المدينة ونجومها المعروفين، حيث كتب لي قائلاً: " أليس جميلاً منا يا أبا حسون أن لا نطالب بالانفصال مثل أبناء اقليم كاتلونيا، أو بالحكم الذاتي كإقليم كردستان، بل كنا ولم نزل نطالب بالعراق الواحد وطنناً الى الأبد ؟ نعم وما زلنا وسنبقى مواطنين عراقيين أوفياء لوطنهم، وحريصين على وحدة بلادهم رغم كل المظالم والتمييز الذي تعرضنا له على يد حكوماتنا الوطنية بمختلف أشكالها وأصباغها وأخلاقها" !!
*
اضافة التعليق