بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
هذا المقال ليس دعاية أو ترويجاً لأحد أشرطة الفنان كاظم الساهر الغنائية، ولا دعاية له، أو لي، أو تمجيداً لأحد، إنما هو رسالة أجد من الضروري إرسالها في هذا الزمن الأغبر .. زمن تراجع (الكلمة)، وانهيار منظومة الأخلاق والقيم ونكث العهود والمواثيق، والالتزامات، بحيث بات نقض العهد أمراً طبيعياً في مجتمعنا العراقي، اللهم إلا البعض القليل من الناس .. وستكون المصيبة فادحة حين يصبح التخلي عن شرف الكلمة وقدسية العهد، أمراً مقبولاً لا يعاب ولا ينتقد في عراقنا الذي لم يكن يوماً بمثل ما هو فيه اليوم للأسف الشديد. لذلك وجدت نفسي ملزماً بتذكير الأجيال الجديدة بكل الوسائل والحكايات والأمثلة الممكنة عسى أن تنفع الذكرى وتؤتي ثمارها. وفي هذا السياق أعرض اليوم حكاية ليست بعيدة، كانت قد حصلت معي في ولاية مشيغان الأمريكية قبل حوالي عشرين عاماً.. وعرض الحكاية في مقالي هذا ، لا يأتي من باب الفخر والتباهي بي وبأبناء جيلي، إنما لارتباطها بقيمة الكلمة والالتزام الأخلاقي، والقيم السامية التي نشأنا وتربينا عليها حتى صارت جزءاً منا. والحكاية تبدأ من ساعة متأخرة في ليلة شتائية ثلجية من العام 2004، كنت فيها مدعواً عند أحد الأصدقاء بمدينة ديترويت التي لا تبعد عن منطقة (ديربورن) التي كنت أسكن فيها ذلك الوقت - سوى عشرين دقيقة ليس أكثر.. وبعد انتهاء السهرة، غادرت بيت صديقي (منتشياً جداً) وأنا أقود سيارتي في شارع ( وورن ) الطويل، المزدحم ببياض الثلج، وانسجاماً مع روعة المزاج الذي كنت فيه وضعت بالمسجل شريطاً للفنان الكبير كاظم الساهر، وتحديداً أغنية (أنا وليلى) . وفي تلك اللحظة المزاجية السحرية الباهرة، سمعت صفارة إنذار سيارة البوليس خلفي، ترتفع وتنخفض مع انبثاق عدد من الأضواء الحمراء والزرقاء، والبيضاء، أيضاً، وحين تأكدت من أني المقصود بهذه الضجة، أدركت خطورة الموقف الذي أنا فيه، إذ لا تجتمع هذه الأضوية الثلاثة مع هذه الصافرة المتواصلة إلا في أمر جلل، ناهيك من أني كنت (سكراناً)، وهذا لوحده مصيبة عظيمة في امريكا..! أوقفت السيارة ونفذت كل التوجيهات المعروفة في مثل هذه الحالة.. وأولها البقاء خلف مقود السيارة وعدم القيام بأية حركة، وإلا قد يطلق البوليس عليك النار، وتدفع حياتك، لو لم تلتزم بهذه التوجيهات الصارمة ! لم أرتبك ساعتها فقط، إنما خفت أيضاً، حتى شعرت أن يدي ترتجفان من الخوف، وركبتَي ترتعشان، وقلبي يكاد يسقط بين قدمي، ولم أعد أستطيع السيطرة على نفسي، فهذه أول مرة أواجه فيها البوليس، فضلاً عن (الإرث) المرعب الذي خلفه نظام صدام في قلوبنا، بحيث صرنا نخشى ونخاف أي شرطي، أو أية جهة حكومية حتى لو كنا نعيش في بلد ديمقراطي مثل أمريكا .. بلد تحكمه سلطة القانون والدستور وليس سلطة (الويلاد )! بعد دقيقتين ( طويلتين ) من توقفي، وقف ضابط البوليس على رأسي، وهو يطلب مني الأوراق الثلاث التقليدية : إجازة السوق، وشهادة التأمين على السيارة، وأوراق الملكية، أعطيته ما أراد، لكني نسيت أن أطفئ المسجل، فظل كاظم الساهر يصدح بأغنية ( ليلى ) دون أن أنتبه.. كان الضابط الأمريكي ذا وجه أحمر مستدير وقامة فارعة بحيث كان ينحني كثيراً كي يتحدث معي عبر نافذة السيارة.. ولم يطل الحال حتى فاجأني بقوله: أنت (شارب) كحول طبعاً ؟! قلت له بعد ان تيقنت من انه شم رائحة المشروب المنبعثة من أنفاسي وفمي : نعم، ولكن قليل جداً .. !! ازداد رعبي بسؤاله هذا ، لأني كنت أعرف ماذا سيحل بي وبعائلتي عندما تسحب مني إجازة السوق، خاصة وأن أولادي كانوا صغاراً وكنت أوصلهم بالسيارة يومياً للمدارس، إذ كان عمر أكبرهم 12 سنة، كما أن زوجتي لم تكن تجيد السياقة ذلك الوقت. والجميع يعلم أن الحياة مستحيلة جداً في أمريكا بدون سيارة، وبدون إجازة سوق طبعاً .. تَفَحّص الضابط أوراقي، ثم قال لي : أتعرف عقوبة من يسوق مخموراً، لاسيما في مثل هذه الظروف الجوية؟ قلت له بصوت مرتعش : نعم سيدي !! وقبل أن أسلّم أمري إلى الله، وأستسلم، همس الضابط الأمريكي في أذني باللهجة العربية اللبنانية، وهو يؤشر نحو المسجل، والصوت الذي لم ينقطع او يتوقف، قائلاً بود ولطف : هل هذا ( كازم ) الساهر ؟! فهتفت في سري: يا الهي، ماهذا الطوق الذي رمته الأقدار لنجاتي .. إنه عربي، بل ويعرف كاظم الساهر، وأكيد هو من معجبيه ؟! انتبهت لنفسي، وصحت بفرح: نعم كاظم الساهر .. وبدون أن يسألني رحت أقول له: إن كاظم صديقي، وقد كتبت له اكثر من أغنية، وأنا شاعر غنائي .. وووووووو .. قاطعني الرجل مبتسماً وهو يقول: إذاً أنت عراقي؟ قلت؛ نعم أنا عراقي.. وأظن أنك لبناني الأصل ؟ قال لي، نعم نعم.. ثم رفع قامته، وقال لي: سأعفو عنك هذه المرة، وثق أني لم أفعلها منذ أن عملت في البوليس قبل عشر سنوات تقريباً، سأعفو عنك اعتزازاً بالفنان ( كازم ) الساهر، وحباً بالعراقيين الطيبين .. وسأعيد إليك أوراقك وكأن شيئاً لم يكن، لكن بشرط أن تعدني، وتلتزم بأن لا تجلس خلف مقود سيارة، ولا تقد، وأنت مخمور مهما كان السبب .. قلت له: أعدك، وسالتزم بوعدي هذا مدى الحياة .. ومنذ ذلك اليوم إلى هذه الساعة لم أنقض عهدي، ولم أتراجع قط عن كلمتي طيلة السنوات العشرين، رغم أني انتقلت بعد سنة واحدة من ولاية مشيغان إلى ولاية كاليفورنيا، التي تبعد خمس ساعات طيران ورغم أني تعرضت إلى دعوات الكثير من الأصدقاء بنسيان ذلك العهد، لاسيما قولهم: إن وعد (السكران) ليس فرضاً أو ديناً أو ذمة يتوجب عليك الإلتزام به !! لكني بقيت ملتزماً بكلمتي وعهدي لذلك الضابط.. وشهودي على دقة ما أقول صحبتي وأصدقائي الأحبة بكاليفورنيا، الذين يتناوبون على إيصالي من البيت إلى ( العش ) الذي نلتقي، ونحتسي فيه اسبوعياً، وإعادتي إلى البيت دون ملل أو تذمر طيلة عشرين عاماً، فهم يعرفون هذه الحكاية، ويعتزون بصدق كلمتي وعهدي الذي قطعته ايضاً. فشكراً لهم واحداً واحداً : وسأظل ممتناً لكرمهم ونبلهم هذا إلى الأبد.. وهم الأحبة جمال جميل، والمهندس عمر بطرس، والدكتور البروفيسور شاكر حنيش، والمهندس جمال جابرو.. وقبلهم كان الراحل الكبير حنا قلابات .. فشكراً للزمن وللأقدار التي جمعتنا، نحن الأبناء البررة والأوفياء المخلصين لقيمنا ومنظومتنا الأخلاقية، ولكلمتنا التي لم نخنها قط.
*
اضافة التعليق