بغداد- العراق اليوم:
محمد رسن
احتضنت قاعة مديرية شباب مدينة الصدر حفل توقيع كتاب( ماركس في مدينة الثورة) للكاتب والشاعر الاستاذ فالح حسون الدراجي، الحفل الذي لم يكن كغيره من الاحتفاءات العابرة، بل كان لحظة فارقة تتجاوز الطقوس المعتادة، وتنهض بما يشبه الإعلان الثقافي عن زمن جديد، الكتاب حين خرج للعلن، كأنه استدعى ذاكرة المدينة، وضمائرها، وكل أولئك الذين لا يزالون يؤمنون بأن للكلمة سطوة تُعيد تشكيل الوعي، ملامح الأصبوحة كأنها مهرجاناً ثقافياً نبضت به الروح قبل الكلمات، واكتظت به القاعة بالقلوب قبل الكراسي، شعراء من مختلف المشارب، مناضلون شدتهم الفكرة لا المجاملة، أدباء حملوا في أعينهم دهشة الجمال، حضروا لا ليشاهدوا، بل ليشهدوا ولادة كتابٍ كتب بالحبر واشتعل بالأسئلة، ورغم أن عنوان الكتاب جاء صادحاً، يلامس الوتر الحساس في مدينةٍ ذات نزعةٍ دينيةٍ محافظة، إلا أن وقع الحضور، وتوهج التفاعل، فاقا كل التوقعات، وتحول التوجس إلى احتفاء، والصمت المتوقع إلى ضجيج محبة وانبهار، جاء الحضور من كل أطياف التنوير، بين شاعرٍ يجيد اقتناص المعنى من الظلال، وموسيقي يُترجم النبض لحناً، وناقدٍ يزن الكلمة بميزان العقل، وكاتبٍ يفتش عن الحقيقة في شقوق الصمت، امتدت القاعة لتحتضن أبناء الشعراء والمناضلين، كما لو أن الذاكرة نفسها جاءت تمشي على أقدام أحفادها، ملوّحة بالوفاء، ولم يكن غياباً لمن غاب، بل حضوراً مكتمل الملامح، بزخم قيادة الحزب الشيوعي العراقي، كأن الفكرة جاءت تستردّ مكانها في العلن، توليفة فريدة، لم تشهدها قاعات النقابات ولا دهاليز الاتحادات، جمعت ما تفرّق من الأطياف على مائدة الفكر والكرامة، وإن دلّ هذا الحضور المهيب على شيء، فإنما يدل على عظمة الكاتب، لا في ما كتب فقط، بل في ما أيقظ من أسئلة، وما استنهض من ضمائر، الحفل إعلانا صريحا بأن الثورة الفكرية لا تموت، وأن ماركس، في قلب هذه المدينة، لا يزال صوتاً يرن في أروقة الفكر، وأن الكتب، مهما أثارت الجدل، تظل جسورا بين الأجيال، ومفتاحا لكل حرية، "ماركس في مدينة الثورة" ليس مجرد عنوان لكتاب، بل هو إشارة خاطفة إلى تصادم الرموز وتجاور المستحيلات، أن يُذكر ماركس بكل ما يحمله من ثقلٍ فكري ورؤية مادية راديكالية في قلب مدينة مشبعة بالروح الدينية والولاء الشعبي، فتلك مغامرة فكرية قل من يجرؤ على خوضها، وتحمل في طياتها جرأة الكاتب، وجرأة المدينة أيضاً على الإصغاء لما هو خارج مألوفها، إن حضور هذا الكتاب في مدينة الصدر بالذات، لم يكن مجرد توقيع بين الجدران، بل إعلان ثقافي صريح بأن الثورة ليست حكراً على البندقية، بل للكلمة فيها مقعد وموقف، إنه تحدٍّ مزدوج، أن تستضيف مدينة الثورة فكر ماركس، وأن تُنصت له دون نفور، بل بحفاوة تليق بالكبار، وكأنما الحبر في هذا الكتاب أعاد صياغة الجدل لا ليفرض قناعة، بل ليفتح أفقاً، "ماركس في مدينة الثورة" هو منحة لا تُهدى إلا للكتب التي تمس عصب الحقيقة، وللكتاب الذين امتلكوا من الجرأة ما يوقظ الساكن، إنه تحدٍّ جميل، لا يخوضه إلا من آمن أن الكلمة الحرة تستطيع أن تتسلل من بين الشقوق، وتزهر في التربة التي يقال عنها إنها لا تُنبت، في هذا الاحتفاء، لم يكن الجمهور مجرد حضور، بل كان شاهداً وشريكاً ومؤمناً، جاء ليرد على الخوف بالتصفيق، وعلى التحفظ بالاحتضان، وعلى كل رقيبٍ داخلي أو خارجي، بأن المدينة لا تكره الفكر، بل تنتظر من يُحسن طرق أبوابها، لقد أثبت هذا الحدث أن للكلمة نبضاً أقوى من الموانع، وأن مدينة الثورة، باسمها وناسها، لا تنغلق على الضوء، بل تفتح له نوافذ من حنين وجرأة واعتزاز، كان الحضور في حفل التوقيع، تجسيداً نادراً لمعنى الوطنية حين تتعالى على التخندق، وتسمو فوق الاصطفافات الضيقة، حضورٌ وطني، ثقافي، إنساني بامتياز، لا يشبهه حضور، حضور مهيب بالعدد و القيمة، لم يكن بلونٍ واحد كما توهم البعض، بل كان أشبه بوشاح عراقي خالص، حيكت خيوطه من أطياف متباينة، في مشهد جمالي حد الهتاف الأخير، جلس نجل الشهيد الشيوعي الفذ بشار رشيد إلى جوار نجل الشهيد الصدري البطل علي الكعبي، وبينهما والد شهيد الحشد الشعبي، الشاعر المقاوم علي رشم، ثلاثة رموز بثلاث روافد مختلفة، اجتمعوا على طاولة واحدة، في لحظة من الصفاء الوطني، كأن الشهداء ابتسموا من عليائهم، وأرسلوا أبناءهم ليعلنوا أن دمهم لم يهدر، وأن العراق حين يجمع أبناءه، لا يسألهم من أين جاؤوا، بل ماذا يحملون في قلوبهم، وفي ركن آخر من القاعة، جلست وجوهٌ لا تغيب عن الذاكرة: أبناء، آباء، وأشقاء شهداء ومبدعين رحلوا وتركوا وراءهم أثراً لا يُمحى، كان الكتاب قد اختصّهم بصفحاتٍ من نبض، حكاياتٍ كتبت بضمير المؤرخ وعين المحب، فجاءوا لا ليروا، بل ليُكملوا السرد، ويُضيفوا بوجودهم ما لا تقدر عليه الكلمات، إنها لحظة فريدة، انصهرت فيها الأيديولوجيات في أتون الوفاء، وتصافحت فيها الأرواح قبل الأيادي، لحظة كتلك لا يصنعها التخطيط، بل تصنعها النية النبيلة، والكلمة الصادقة، ووجدان وطن لا يزال يتنفس رغم جراحه.
*
اضافة التعليق