بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
سيادة القاضي حيدر حنون المحترم .. أكتب لك بعد التحية والسلام، وأود أن اسألك أمام الناس وعبر هذا المقال الافتتاحي، بعد ان كنت قد سألتك شخصياً عبر الهاتف بعد دقائق من انتهاء مؤتمرك في أربيل، ولحظات من صرختك المزلزلة تلك، حالي حال العديد من الصحفيين الذين اتصلوا بجنابك الكريم، وأذكر أني قلت لك وقتها: ماذا فعلت يا سيادة القاضي؟! ولم أنتبه جيداً لجوابك في تلك اللحظة، فقد كان الجو مشحوناً ومتوتراً بل وعاطفياً وجدانياً أيضاً .. إذ كنت مثل ملايين العراقيين، (مصعوقاً) بما صرختَ وصرحت به، وبما ذكرته أمام العالم من معلومات مهمة وخطيرة.. لقد قلت لي ساعتها وأنت لم تزل في عين العاصفة : هو موقف حق يا فالح، فإما أن نسجله للتاريخ، ونعلنه أمام الله والشعب، ونتحمل مسؤوليته، او نعتزل الموقع، ونجلس في بيوتنا، فالموت عندي أهون من السكوت على الفساد والتغطية على الفاسدين واللصوص.. واتذكر ياسيدي القاضي أني قلت لك وقتها: وهل أنت مستضعف؟! فقلت لي: نعم أنا مستضعف، لكني لست ضعيفاً قطعاً.. ويجب أن تعرف ويعرف الجميع ان ثمة فرقاً كبيراً بين المستضعف والضعيف.. لقد كان الإمام الحسين - بعد أن خذله القريب والغريب- مستضعفاً وهو يواجه لوحده جيوش الباطل في أرض كربلاء، لكنه لم يستسلم قط، فواجه اصحاب الباطل بالكلمة أولاً، ثم بالسيف، حتى استشهد هو ومن معه من القلة القليلة، فكان استشهاده نصراً تاريخياً، وقوة عظيمة للحق وأنصاره، بحيث ظل شعاعه يمد أهل الحق، وجموع المستضعفين بوسائل الصمود والصبر والمقاومة والقوة. وخلاصة قولك كما ذكرته لي ياسيدي القاضي، أن ( الإنسان موقف، والمسؤولية موقف، والموقف يعني كلمة، كلمة فحسب.. وأنا اخترت الطريق الذي سار به سيدي ومولاي أبو عبد الله الحسين .. طريق الحق، وقول كلمة الحق مهما كان الثمن غالياً..). بعد انتهاء مؤتمرك ذاك، حدث في الشارع العراقي ما لم يحدث به من قبل.. ولا أخفي عليك، فقد انقسم حولك الناس إلى فريقين، فريق ذهب معك في كل ما قلته وعنيته، أي :( لحم على بارية) كما يقول أهلنا في العمارة.. وفريق صار ضدك في البدء، ولكل واحد فيهم أسبابه طبعاً، لكن جميع العراقيين - أي من وافقك ومن خالفك- متفقون على شجاعتك وصراحتك، وعلى أنك قلت ما لم يقله غيرك.. حتى أن بعضهم قال إنك خبطت بصراحتك ماء المحيط- فمن يجرؤ ويقدر على خبط المحيط- ؟! إن الذين اختلفوا معك يا سيدي كثيرون، بدءاً من الناس الطيبين الذين لم يعتادوا على مثل هذه الصراحة الشديدة من قبل، لذلك اصطدمت مسامعهم وأبصارهم بشيء ( غريب) بل وغريب جداً، كلام يطلقه مسؤول ليس معروفاً تماماً لديهم، لذلك استنكروا كلامه هذا أولاً، لكنهم سرعان ما بدؤوا يستوعبون صراحتك شيئاً فشيئاً، حتى أدركوا أن هذا الرجل لم يصرخ من أجل نفسه، إنما صرخ من أجل حقوقهم المالية التي نهبها نور زهير وإحسان عبد الجبار وبقية السفلة.. كما انتقدك البعض حول فكرة عقد المؤتمر من الاساس، لا سيما عقده في كردستان وليس في بغداد، فضلاً عن الذين وقفوا ضدك في كشفك للحقائق وبؤر الفساد أمام العالم وليس خلف الكواليس كما يحب ويرغب البعض من محبي، ( الستر).. ناهيك من الذين هم ضدك أساساً، وأقصد بذلك أباطرة المال، والقوى السياسية المتنفذة والمتسلطة التي أحرجتها بصرختك تلك، فأصحاب العروش لهم كما نعرف، جيوش جرارة من التابعين والمريدين والمزمرين، وليس من المعقول أن يصمتوا على قاض قادم من (العمارة)، جاء يهدّ صروحهم التي شيدوها بأموال ودماء الفقراء و(المستضعفين). و عدا هؤلاء، فثمة الذين نلت منهم في مؤتمرك ذاك، وكشفت أسماءهم أمام الملأ- وأي ملأ كان ياسيدي القاضي - .. طبعاً هناك من انتقد كشفك موضوعة قطعة الأرض التي منحها الكاظمي لك ولزملائك القضاة والوزراء والزعماء، فهؤلاء لا يريدونك قطعاً أن تقول الحقيقة كلها، فالحقيقة كلها مرة، وهم يكرهون الطعم المر حتى لو كان شفاء البلد فيه !! نعم سيدي القاضي، لقد ظهر الكثيرون ضدك بعد المؤتمر: سياسيون، ومحللون، وإعلاميون، وحقوقيون، وتجار عملة، وأناس طيبون لا ناقة لهم في القضاء والسياسة والمال ولا جمل، لكنهم ركضوا على (خف الطبل)، وللحق فإن ثمة أشخاصاً نزهاء وشرفاء ووطنيين انتقدوك أيضاً في البدء، وكل منهم له سببه. لكن الحقيقة بدأت تظهر منذ اليوم الأول الذي تلا المؤتمر، أن الكثير من هؤلاء أدرك أنك رجل وطني ونزيه وحريص على المال العام، وأن صرختك تلك، وحرقة قلبك اللاهبة، و(يباس بلعومك) لم يكن إلا من اجل إحقاق الحق، ومحاسبة لصوص سرقة القرن، و الفاسدين جميعاً مهما كانوا واينما صاروا، وإلا لجلست مثل غيرك على كرسي المنصب متمتعاً بامتيازات الموقع، و( غيرها) من الامتيازات التي يتمتع بها من كان بمثل موقعك الرفيع جداً، ولا من شاف ولا من درى كما يقول المثل الشعبي .. وبالمقابل، يجب علينا أن نقول إن ملايين العراقيين وقفوا معك منذ اللحظة الأولى سواء في كشف الحقيقة، وكشف المستور الذي حرص الكثيرون على إبقائه مستتراً، أو في إصرارك على الذهاب إلى البرلمان وكشف كل شيء، وهذا أمر غير مسبوق بالمرة.. وهناك الكثير الذي غير رأيه فيك من السلب إلى الإيجاب.. إن الرأي العام الذي كان مختلفاً حول (صرختك) بدأ يتفق اليوم حول دوافعها، ويتفهم اسبابها، وصار يقدر جرأتك وحرصك على اعادة جلب كل مجرمي سرقة القرن بلا استثناء، بل ومحاسبة من وقف ولم يزل يقف خلف حمايتهم..حتى رحنا نرى يومياً مئات المقابلات الصحفية والتلفزيونية والاف التغريدات والبوستات، التي تعلن عن تأييدها لوقفتك وصرختك المدوية، فماذا فعلت بالماء الراكد و ( الهادئ) منذ سنين، وأي حجر ثقيل ألقيته في محيط فساد دولتنا الكارثية، فجعلت عاليها سافلها، و (خبطت الماي الأزرگ) فيها كما يقول الشاعر الكبير عريان السيد خلف.. إن الذين استشعروا أهمية كلماتك كثيرون، أما الذين اعلنوا مواقفهم المؤيدة لك فعددهم كبير أيضاً، ومن بينهم عدد من الشخصيات المهمة في حقول التحليل السياسي والاعلامي والاكاديمي والقضائي والاقتصادي بل وحتى في حقل السياسية نفسه. أما أنا، ومذ أن قلت لي إن الإنسان موقف، والموقف كلمة، وعرضت نموذج الإمام الحسين على مسمعي، قدوةً لك ولمن يحترم الكلمة ويجلها، منذ تلك اللحظة و أنا اردد بعذوبة ومتعة، كلمات الإمام الحسين في حواره مع الوليد بن يزيد بن معاوية، حين طلب الوليد من الحسين أن يبايع أباه يزيد للخلافة، قائلاً له: نحن لا نطلب منك إلا كلمة، فلتقل: "بايعت " واذهب بسلام لجموع الفقراء، قلها وانصرف يا ابن رسول الله حقناً للدماء فلتقلها.. آه ما أيسرها.. إن هي إلا كلمة..! فرد عليه الحسين عليه السلام (منتفضاً): كَبُرتِ الكلمة ! ما دينُ المرء سوى كلمة.. ما شرفُ الرجل سوى كلمة .. ما شرفُ الله سوى كلمة.. مفتاح الجنة في كلمة.. دخول النار على كلمة وقضاء الله هو الكلمة، الكلمة لو تعرف حرمة زاد مذخور، الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور، بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري، الكلمة فرقان بين نبي وبغي، بالكلمة تنكشف الغمة، الكلمة نور ودليل تتبعه الأمة، عيسى ما كان سوى كلمة أَضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين فساروا يهدون العالم، ! الكلمة زلزلت الظالم، الكلمة حصن الحرية، إن الكلمة مسؤولية، إن الرجل هو الكلمة، شرف الرجل هو الكلمة، شرف الله هو الكلمة. وختم الحسين قائلاً: لا ردّ لدي لمن لا يعرف ما معنى شرف الكلمة .. نعم هي كلمة ياسيدي، ولكن ماذا نفعل مع الذين لا يعرفون معنى الكلمة !!
*
اضافة التعليق