بغداد- العراق اليوم: فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة قد يظن البعض أنّ في عنوان هذا المقال لبساً، أو سهواً أو خطأً وقعتُ فيه.. باعتبار أن الفساد أصبح (ماركة) مسجلة باسم المسؤول الحكومي والسياسي العراقي، وليس باسم المسؤول الإيراني، وهنا يفترض أن أضع العنوان بشكل معاكس لما هو فيه الآن .. فالمواطن العراقي وغير العراقي، أصبح اليوم وللأسف يربط ربطاً وثيقاً لا فكاك منه بين (الفساد) والمسؤول في الدولة العراقية- حتى لو كان ذلك المسؤول نزيهاً - !! فتساوت ظلماً، (القَرعة) وأم شعر، وأصبح التفريق والتمييز بينهما أمراً صعباً إن لم أقل مستحيلاً .. وكي أكون دقيقاً فأنا لا أُبرئ ساحة الدولة الإيرانية من حالات الفساد، بل لا أُبرئ أية ساحة حكومية أو سياسية في العالم من شبهات الفساد المالي.. ولكنها جميعاً ليست بمستوى مصيبتنا وبلائنا.. وأعتقد أن كلامي هذا لا يحتاج إلى أدلة أو براهين، إذ يكفي أن تطالع أنشطة هيئة النزاهة العراقية، وتتابع حصاد جهادها اليومي حتى تكتشف بنفسك حجم الكارثة بالأرقام، وسينتابك الغضب حتماً، ليس لحجم وهول الفساد المستشري في عموم البلد فحسب، إنما أيضاً للمستوى المتدني الذي وصل اليه حال الكثير من المسؤولين في الدولة، حتى أصبح حضور بعض المسؤولين العراقيين في أي تجمع او احتفال شعبي (مناسبة) للتنمر والنقد اللاذع والسخرية من قبل الحاضرين، بل ويصل الأمر إلى إطلاق العبارات الموجعة والكلمات النابية بحق ذلك المسؤول ..! ولدينا أمثلة عديدة على تعرض أكثر من شخصية حكومية عراقية نافذة إلى (حفلة) طرد وتعنيف، وقد تنشب مواجهة بين حماية ذلك المسؤول وبعض المواطنين الحاضرين .. وطبعاً فأن الحال لا يتوقف على المسؤول الحكومي فقط، إنما يشمل أيضاً نواب البرلمان والكثير من المسؤولين السياسيين، والمهنيين ( الذين تلطخت أيديهم بالمال الحرام) .. إذاً، فإن عنوان المقال لم يكن خطأً ولا بريئاً قط، إنما تعمدت ذلك، قاصداً من خلاله استفزاز القارئ وجذب انتباهه بل وسحبه بـ(غرابة العنوان)، ولا منطقيته، إلى الهدف الذي اريد أن يصل اليه .. وهنا قد يسأل القارئ ويقول: وما مناسبة هذا المقال، وهل إن موضوع الفساد في الدولة العراقية أمر جديد؟! والجواب: كلا، لكن مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه في حادثة سقوط الطائرة، وجو الحزن والأسى الذي سيطر على عشرات الملايين من الإيرانيين جعلنا منبهرين، حتى أن شوارع العاصمة (طهران)، المعروفة بتوجهات مواطنيها المدنية، والعلمانية بل والمعارضة للتوجهات الحكومية ، غصت بمئات آلاف المشيعين الذين خرجوا منذ ساعات الفجر الأولى لوداع رئيس دولتهم الراحل.. وقد كانت الدموع والنحيب والآهات عنواناً لعيون ووجوه وفجيعة الشباب والنسوة والشيوخ، كما كانت الزهور التي تنثر على الجثامين من كل مواقع التشييع في طهران وتبريز دليلاً على حب الناس، ناهيك من جموع الجماهير المفجوعة في مدينة مشهد- مسقط رأس الرئيس رئيسي - فماذا يعني هذا .. ماذا، اليس حباً، وكيف تكوّن هذا الحب، الم يكن ثمة سبب اخلاقي يقف خلفه ؟ والجواب برأيي لا يحتاج الى شرح وتفصيل، فالرجل الفقيد - رغم شدته وصرامته وراديكاليته - قد حظي تشييعه بكل هذا الحضور الشعبي الكبير .. وهو لعمري دليل حب، واحترام واضحين، او لنقل هو اعتراف صريح من قبل الشعب الإيراني بنزاهة وحسن سيرة هذا المسؤول الحكومي الكبير، و أنا هنا لا أدافع قطعاً عن النظام الإيراني ولا عن رئيسه الراحل، فالنظام الإيراني لا يحتاج حتماً إلى من يدافع عنه - ولديه قوافل من المدافعين-، كما أن عقيدتي اليسارية العلمانية التي تختلف مع الكثير من التوجهات والطروحات الفكرية والأيدلوجية لجمهورية ايران الإسلاميّة تجعلني في دائرة سياسية أخرى، لكن الحق يجبرني على قول كلمة، ولو كلمة بحق المستوى الأخلاقي العالي الذي تتسم به بنية وأداء ومحتوى الدولة الإيرانية ورئيسها الفقيد الراحل. لقد فوجئ العراقيون بل وصدموا أيضاً أمس، وهم يرون عبر شاشات التلفاز حجم و( نوعية ) البيت الطيني البسيط جداً الذي تسكن فيه عائلة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي .. وهو الذي يمسك هذه الدولة العظيمة من تلابيبها، وفي يديه ما يستطيع أن يبني لأبيه وعائلته قصراً عظيماً، وهذا برأيي السبب الرئيسي الذي وضع العراقيين - وأنا منهم - في إطار وجوهر هذه الصدمة، فضلاً عن المقارنة في سعة الفوارق المعيشية بين حياة رئيس أكبر دولة شرق أوسطية، وبين حياة أبسط مدير عام أو نائب، أو صاحب شركة، أو نقابة، أو زعيم فصيل مسلح، أو صديق مقرب من جماعة مزاد العملة في العراق ..! بيت طيني متواضع يسكنه أبو الرئيس (رئيسي) وأمه وبقية عائلته.. بينما يسكن سياسي عراقي (حالي) و (حرامي هوش) سابق في قصر لم يسكن مثله حتى هارون الرشيد وسيدة العباسيين الأولى الست زبيدة.. !! لذلك تفجرت دهشتنا وصدمتنا، طارحة وابلاً من الاسئلة، عن هذا البيت المتواضع، و عن تعاطف الشعب الإيراني مع جنازة الرئيس القتيل، وعن انسيابية وسلاسة تنفيذ فقرات النظام وتطبيق الدستور، إذ ويا للروعة، حين تسلم النائب الاول موقع الرئاسة منذ الساعة التي عثروا فيها على الطائرة المفقودة وجثة الرئيس، كما تحدد موعد الانتخابات الرئاسية في ذات اللحظة، وتسلم وكيل وزير الخارجية حقيبة الوزارة تلقائياً دون أية مشاكل أو تعقيدات .. لقد انتهت العملية برمتها خلال ساعات، أما حسبة انتخاب رئاسة البرلمان العراقي الجديد، فلن (تخلص) حتى انتخابات الدورة البرلمانية القادمة التي لا أحد يعلم موعدها!. ولعل من بين الاسئلة التي توجع العراقيين سؤال يقول: لماذا يحصل كل هذا الفساد في العراق ولا يحدث مثله بل ولا حتى (ربعه) في ايران رغم أن إيران محاصرة من جميع الاتجاهات منذ اكثر من أربعين عاماً، وظروفها المعيشية تعيسة جداً، ثم لماذا كل هذا الخراب في بلادنا ولا نجد مثله في ايران، رغم أن كلا البلدين يتوفران على النفط الكثير ، ولماذا كل هذا الضعف في شخصية دولتنا العراقية، وهذه التبعية للأجنبي التي تصل احياناً حد العمالة بذوات الكثير من سياسيينا؟ لماذا يجري هذا الانحدار السريع في مجرى قيمنا الوطنية وسلوكنا الوظيفي، وبنيتنا العقائدية والفكرية حتى بات يكاد يصل إلى مستوى اقدامنا؟ ولماذا نتقاطع كل هذا التقاطع (الممنهج)، والمريب مع موروثنا الحضاري والثقافي، ومع تقاليدنا العراقية الأصيلة.. حتى صرنا في (اليوتيوب) مضحكة( لليسوه والما يسوه)، ولماذا يحدث كل هذا السوء في مناشئ ومسالك أجيالنا الجديدة دون أن نجد مثيلاً لذلك في ايران وبلدان مجاورة.. والسؤال الأخير: لماذا تشتغل هيئة النزاهة في العراق ليل نهار، وتعمل بيديها ورجليها دون أن تتمكن حتى هذه اللحظة من مسك كل اللصوص والفاسدين ( لكثرتهم )، رغم ان رجال النزاهة يستحقون منا الشكر والتقدير كل يوم، بل وكل ساعة.. صحيح أن الفاسدين كثيرون، ولكن يجب أن يكون هناك تعاون حكومي وقضائي وشعبي مع أبطال هيئة النزاهة، كي تنجح هذه الهيئة في تنظيف البلد وانقاذه من شرور الفاسدين، مهما كانت مواقعهم ومساندهم، مثلما نجح ( رئيسي) حين تعهد ونفذ بقوة مفردات تعهده بمواجهة التحايل والالتفاف على القانون حيث قال: «لا يحق لأي شخص مهما كان موقعه الالتفاف على القانون وارتكاب تجاوزات قانونية». نعم هكذا نجحت ايران في مواجهة الفساد، وهكذا يجب ان نفعل كي تنظف بلادنا من بؤر الفساد وحيتانه الجائعة. أخيراً أقول: ألم يستحِ المسؤولون العراقيون من أصحاب الفيلل والقصور حين رأوا بيت رئيسي الطيني ؟!
*
اضافة التعليق