بحث عنه نابليون... ما قصّة قبر كوبرنيكوس؟

بغداد- العراق اليوم:

"من بين جميع الاكتشافات والآراء، لم يحمل أيّ منها تأثيراً أعظم على الرّوح الإنسانيّة من تأثير عقيدة كوبرنيكوس. بالكاد أصبح العالم معروفاً بأنّه مستدير ومكتمل في حدّ ذاته عندما طُلب منه التنازل عن الامتياز الهائل المتمثّل في كونه مركز الكون".

من هو نيكولاس كوبرنيكوس الذي لم ينل فقط تقدير الكاتب والشاعر الألمانيّ يوهان فولفغانغ فون غوته بل المجتمع العلميّ بأسره بعدما نقض نموذج مركزيّة الأرض؟ ولماذا مثّل البحث عن قبره هاجساً لدى البعض وفي مقدّمتهم الإمبراطور نابليون بونابرت؟ وهل نجح هؤلاء في العثور عليه؟

عن هذه الأسئلة وغيرها يجيب المؤرّخ في الجامعة الأستراليّة الكاثوليكيّة داريوس فون غوتنر سبورزينسكي في تقرير نشره موقع "ذا كونفرسيشن":

كان نيكولاس كوبرنيكوس عالم الفلك الذي فسّر قبل خمسة قرون أنّ الأرض تدور حول الشمس، وليس العكس. كان رجلاً نهضويّاً حقيقيّاً، وقد عمل أيضاً كعالم رياضيّات ومهندس ومؤلّف ومنظّر اقتصاديّ وطبيب.

عند وفاته سنة 1543 في فرومبورك البولنديّة، دُفن كوبرنيكوس في الكاتدرائية المحلّيّة. وعلى مدى القرون اللاحقة، ضاع موقع قبره.

من كان كوبرنيكوس؟

ولد نيكولاس كوبرنيكوس، أو ميكوواج كوبرنيك باللغة البولنديّة، في تورونْي سنة 1473. كان الأصغر بين أربعة أطفال ولدوا لتاجر محلّيّ.

بعد وفاة والده، تولّى عمّ كوبرنيكوس مسؤوليّة تعليمه. درس العالم الشاب في البداية في جامعة كراكوف بين 1491 و1494، ثم في الجامعات الإيطاليّة في بولونيا وبادوا وفيرارا.

بعد دراسة الطبّ والقانون الكنسيّ وعلم الفلك الرياضيّ وعلم التنجيم، عاد كوبرنيكوس إلى وطنه سنة 1503. ثم عمل لدى عمّه المؤثّر، لوكاس فاتزنرود الأصغر، الذي كان الأمير-الأسقف لفارميا.

عمل كوبرنيكوس طبيباً بينما كان يواصل أبحاثه في الرياضيّات. في ذلك الوقت، كان علم الفلك والموسيقى يعتبران فرعين من الرياضيّات.

خلال تلك الفترة، صاغ نظريّتين اقتصاديّتين مؤثّرتين. سنة 1517، طوّر النظريّة الكمّيّة للنقود التي أعاد جون لوك وديفيد هيوم صياغتها لاحقاً، وروّجها ميلتون فريدمان في الستينات. وفي سنة 1519، قدّم كوبرنيكوس أيضاً المفهوم المعروف الآن باسم قانون غريشام، وهو مبدأ نقديّ يتناول تداول النقود وتقييمها

النّموذج الكوبرنيكيّ للكون

كان حجر الزاوية في مساهمات كوبرنيكوس العلميّة هو نموذجه الثوريّ للكون. وعلى عكس النموذج البطلميّ السائد حينها والذي أكّد أنّ الأرض هي المركز الثابت للكون، جادل كوبرنيكوس بأنّ الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس.

كان كوبرنيكوس قادراً أيضاً على مقارنة أحجام مدارات الكواكب من خلال التعبير عنها بدلالة المسافة بين الشمس والأرض.

كان كوبرنيكوس يخشى من كيفيّة استقبال الكنيسة وزملائه العلماء لأعماله. لم يُنشر عمله العظيم  "عن حركة الأجرام السماويّة" إلّا قبل وفاته مباشرة سنة 1543.

مهّد نشر هذا العمل الطريق لتحوّلات رائدة في فهمنا للكون، ممّا مهّد الطريق لعلماء الفلك في المستقبل مثل غاليليو الذي وُلد بعد أكثر من 20 عاماً من وفاة كوبرنيكوس

البحث عن كوبرنيكوس

تُعد كاتدرائيّة فرومبورك المثوى الأخير لأكثر من 100 شخص، معظمهم يرقدون في قبور مجهولة.

كانت هناك محاولات عدّة فاشلة لتحديد موقع بقايا كوبرنيكوس والتي يعود تاريخها إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر. محاولة فاشلة أخرى قام بها الإمبراطور الفرنسي نابليون بعد معركة أيلاو سنة 1807. كان نابليون يحترم كوبرنيكوس كثيراً باعتباره عالماً متعدّد الثقافات وعالم رياضيّات وعالم فلك.

وفي سنة 2005، تولّت مجموعة من علماء الآثار البولنديين مهمّة البحث.

لقد استرشدوا بنظريّة المؤرّخ ييرزي سيكورسكي الذي ادّعى أنّ كوبرنيكوس الذي خدم كاتدرائية فرومبورك كان سيُدفن بالقرب من مذبح الكاتدرائيّة الذي كان مسؤولاً عنه خلال فترة ولايته. كان هذا مذبح القديس فاكوف المعروف الآن بمذبح الصليب المقدس.

تمّ اكتشاف ثلاثة عشر هيكلاً عظميّاً بالقرب من هذا المذبح، بما في ذلك هيكل عظميّ غير مكتمل لرجل يتراوح عمره بين 60 و70 عاماً. تم تحديد هذا الهيكل العظميّ على وجه التحديد باعتباره الأقرب إلى هيكل كوبرنيكوس.

علم الطّبّ الشرعيّ

كانت جمجمة الهيكل العظميّ بمثابة الأساس لإعادة بناء الوجه.

بالإضافة إلى الدراسات المورفولوجيّة، غالباً ما يُستخدم تحليل الحمض النوويّ لتحديد البقايا التاريخيّة. في حالة بقايا كوبرنيكوس المفترضة، كان التحديد الجينيّ ممكناً بسبب حالة الأسنان المحفوظة بشكل جيّد.

ويكمن التحدّي الكبير في تحديد مصدر مناسب للموادّ المرجعيّة. لم تكن هناك بقايا معروفة لأيّ من أقارب كوبرنيكوس

اكتشاف غير متوقّع

مع ذلك، سنة 2006، ظهر مصدر جديد للمواد المرجعيّة للحمض النوويّ. تمّ العثور على كتاب مرجعيّ فلكيّ استخدمه كوبرنيكوس لسنوات عدّة يحتوي على شعر بين صفحاته.

تمّ نقل هذا الكتاب إلى السويد كغنيمة حرب بعد الغزو السويديّ لبولندا منتصف القرن السابع عشر. وهو حاليّاً في حيازة متحف غوستافيانوم في جامعة أوبسالا.

كشف فحص دقيق للكتاب عن شعرات عدّة يُعتقد أنّها تخصّ المستخدِم الأساسيّ للكتاب، كوبرنيكوس نفسه. بالتالي، تمّ تقييمها كمواد مرجعيّة محتملة للمقارنة الجينيّة مع الأسنان والعظام المستردّة من القبر.

تمّت مقارنة الشعر بالحمض النوويّ المأخوذ من أسنان وعظام الهيكل العظميّ المكتشف. تطابق كلّ من الحمض النوويّ للميتوكوندريا (المتقدّرات) المأخوذ من الأسنان وعيّنة الهيكل العظميّ مع تلك الموجودة في الشعر، ممّا يشير بقوّة إلى أنّ البقايا كانت بالفعل بقايا نيكولاس كوبرنيكوس.

أدّى الجهد المتعدّد التخصّصات، بما فيه التنقيبات الأثريّة والدراسات المورفولوجيّة وتحليل الحمض النوويّ المتقدّم إلى نتيجة مقنعة.

من المرجّح جداً أن تكون البقايا المكتشفة بالقرب من مذبح الصليب المقدس في كاتدرائيّة فرومبورك هي بقايا نيكولاس كوبرنيكوس. لا يلقي هذا الاكتشاف الضّخم الضوء على المثوى الأخير لواحدة من أكثر الشخصيّات تأثيراً في تاريخ العلوم فحسب، بل يعرض أيضاً عمق وتطوّر الأساليب العلميّة الحديثة في دعم البيانات التاريخيّة.

علق هنا