بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
قد يسأل سائل: هل لهذا المقال علاقة بما تعرض له اللاعب فينيسيوس من اساءات عنصرية بغيضة؟ الجواب: ربما ..! أقول ربما، رغم ان المقال كتبته قبل مشكلة فينيسيوس في فالنسيا، لكني مؤمن بأن العنصرية واحدة، سواء اكانت في امريكا أو جنوب افريقيا أو اسبانيا او فرنسا، او غيرها. وأنا مؤمن أيضاً بحتمية سقوط مشروع التمييز العنصري ودفنه عاجلاً أم آجلاً، ولعل تجربة المناضل نيلسون مانديلا في جنوب افريقيا، وتجربة الرئيس اوباما في أمريكا مثالان واضحان على قدرة الشعوب الحرة في تحقيق النصر، وسحق العنصرية.. لذا تعالوا نتابع قطار النصر الذي وصل به اوباما الى البيت الأبيض.. متى انطلق، وما المحطات التي مرّ بها، وما هو دور القوى (الناعمة) في صنع هذه المعجزة الفريدة؟ لاشك أن الحديث عن فوز أوباما، وحفل تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة يشبه الى حد ما الحديث عن فيلم سريالي يتضمن سيناريو ومشاهد وارقاماً وصوراً عجيبة، فهل تصدقون، أن عدد حضور هذا الحفل بلغ حوالي مليوني شخص، وإن ما يقارب 1.4 مليون كانوا يشاهدونه من مركز تسوق واشنطن، فضلاً عن مئات الملايين من الأمريكيين الذين كانوا يشاهدونه في البيوت والمطاعم والحانات عبر شاشات التلفاز!، وبطبيعة الحال، فقد سجل عدد الحاضرين لحفل تنصيب اوباما رقماً قياسياً عالياً .. أما نوعية الحضور فحدث بلا حرج، مغنون عالميون، وفرق موسيقية، وأسماء لامعة في المشهد الفني والسياسي الامريكي.. ولعل الأروع في الحفل، ذلك الحضور اللافت لأصحاب البشرة السوداء، وهو حضور تقصد أوباما دعوته في هذا اليوم التاريخي، ليرى العالم كله أن الرجل لم يتبرأ من لون عرقه، بل هو فخور به، وبأبناء جلدته، حتى أنه دعا العشرات من قرية أبيه (كوقلو) في دولة كينيا، حيث قادت ساره أوباما التي تبلغ من العمر 87 سنة، وفد ( الكينيين ) القادمين الى واشنطن كضيوف، وبينهم عمة باراك ماجي أوباما اضافة الى عمه، كما دعا أيضا فرقة الاستعراضات من مدرسة بيونيهاو، وهي المدرسة الثانوية التي تخرج منها أوباما في هاواي لتؤدي قسماً من العرض الافتتاحي. وفي خارج البيت الابيض، احتفل الامريكيون في شوارع شيكاغو وديترويت ونيويورك ولوس انجلس، والمدن الامريكية، كما جرت احتفالات شعبية واسعة في دول افريقيا وامريكا الجنوبية، بل وحتى في بعض دول اوربا أيضاً ! وفي نيويورك التقت مراسلة احدى القنوات الامريكية باحدى المحتفلات من ذوي البشرة السوداء قائلة لها: هل توقعتِ يوماً أنك ستحتفلين بتنصيب رجل اسود رئيساً لأمريكا ؟ فضحكت وقالت: سأكون كاذبة ومجنونة أيضاً لو قلت لك نعم! لقد كان البيض يرفضون جلوس الشخص (الأسود) في المقاعد الأمامية من الباص العام، فكيف اتوقع أنهم سيسمحون له في الجلوس بالمقعد الامامي الأول لقيادة امريكا كلها !.. لكني ولا اخفي عنك، كنت أحلم كثيراً، ولم يغب عني الحلم يوماً، حتى تحقق هذا الحلم المجنون، وها هم السود يحتفلون بهذا اليوم العظيم، يشاركهم العالم كله. وللحق، فقد كافح السود بلا هوادة، ولم يكتفوا بالحلم والأمنيات، إنما هم ناضلوا بقوة ضد قوانين التفرقة والتمييز العنصري وتمكنوا من انتزاع حقوقهم المدنية عبر ثورة سلمية قادها مارتن لوثر كينج عام 1955 من أجل تحقيق العدالة والحرية والأمن والسلام للمواطن الأسود.. وقد كانت قضية الناشطة الأمريكية من أصول إفريقية "روزا باركس" الشرارة الأولى لتلك الثورة السلمية التي أشعلها كنج في نهاية عام 1955، وذلك بعد أن رفضت روزا باركس القيام من مقعدها وتركه لراكب أبيض في حافلة مواصلات بمدينة مونتغمري، حيث ينص القانون العنصري على ذلك، وهنا استدعى سائق الحافلة، الشرطة التي ألقت عليها القبض بتهمة مخالفة القانون، واشتعلت شوارع امريكا بنيران الغضب والثورة السلمية عقب تلك الحادثة لتتوج بإلغاء قوانين العزل، ومن ثم صدور قانون الحقوق المدنية عام 1964 .. وتوقيع الرئيس جونسون على قانون المساواة عام 1965، وقد وصل حلم لوثر ذروته عند انتخاب اوباما رئيساً لأمريكا، لفترتين متتاليتين " 2008 حتى 2016" ..! ولكن، هل تعتقدون أن العبودية قد انتهت في امريكا حين وقع الرئيس ابراهام لينكون على قانون تحرير العييد، وهل تحققت المساواة فعلاً بعد توقيعه على قانونها؟! الجواب : كلا .. فالقوانين والقرارات التي تصدرها الجهات العليا قد تفرض واقعاً جديداً قوياً يؤثر بشكل ايجابي في مسارات المجتمع، لكنها لن تصنع سلاماً حقيقياً قوياً، دائمياً. فالسلام تصنعه وتحرسه الشعوب وليس السلطات، والسلام يحتاج أيضاً الى الثقة أولاً، والى ثقافة خاصة، وفهم نوعي، تنسجه قوى (ناعمة) مؤمنة بالسلام والعدالة ايماناً فعلياً، فالسلام الحقيقي تنتجه الفنون بمختلف الوانها وأشكالها.. وباختصار، فإن الفن ومن ضمنه الشعر، يعد أفضل (جسر سلام) لعبور مختلف البيئات المتصادمة الى شواطئ الوطنية والتآخي والمحبة. وفي هذا الاتجاه برز عدد من الناشطين في امريكا، رغم اختلاف ازمنتهم، وعقائدهم، وتوجهاتهم، ليسهموا جميعاً في بناء جسور التواصل مع الآخر، ويهشموا جدران العزل العنصري العالية التي وضعها النظام البغيض أمام السود في أمريكا منذ اكثر من 250 عاماً، فتمكنوا من ايصال منجزهم الابداعي لبيوت وأفئدة الامريكيين البيض والسود على حد سواء. وكان من أبرزهم، الشاعر الامريكي اليساري لانغستون هيوز، والمناضلة الشيوعية انجيلا ديفيز، التي قضت نصف عمرها في سجون العنصرية، واسطورة الجاز أرمسترونغ، وملك " الروك آند رول " الفيس بريسلي، ذلك الامريكي الابيض الذي حمل بشجاعة موسيقى السود، وحلق بها عالياً في فضاءات امريكا ليوصلها الى اسماع الامريكي الابيض فيعشقها قبل أن يعشقها الاسود. حتى جاء الموهوب مايكل جاكسون ليقلب الموازين الفنية، ويغير المعادلة، ويعبث بكل عناصرها الكيميائية.. لقد أحدث جاكسون بعبقريته ثورة في (البوب) بايقاعاته وحركاته ورقصه. وتمكن على مدى 40 عاماً من تحقيق النجاح الأسطوري، واعتلاء عرش الغناء العالمي، متفوقًا على أشهر الأساطير الغنائية الغربية آنذاك، كفرقة البيتلز، والفيس بريسلي، وغيرهم من النجوم.. ولم يكن صيت جاكسون ذائعاً في امريكا فقط، إنما كان معروفاً في العالم كله.. فقد سطَّر مايكل تاريخ موسيقى "البوب" من جديد، بألبوماته التي حققت نجاحات عالمية ساحقة، ووقف الجميع مبهوراً أمام هذا الفتى الذي كسر حواجز العرق واللون، وجعل المستحيل ممكناً، بكونه أول أمريكي أسود تُعرض أغانيه على قناة " MTV " الأمريكية التي كانت تحظر عرض أغاني الفنانين ذوي البشرة السوداء"،وبدا المستحيل ممكنًا بالنسبة للكثيرين، حين رأوا (فتى أسود) يبهر العالم بفنه المتميز، منتزعاً صيحات الإعجاب من الجمهور الأبيض والاسود معاً، وهو يؤدي رقصة (مشية القمر) الشهيرة، في الحفل الذي أقيم عام 1983.. كما أن ألبومه الذي صدر قبل 40 عاماً تقريباً، حطم كافة الأرقام القياسية، وحصد جوائز عديدة منها ثماني جوائز "غرامي" كما بُيعت منه أكثر من مئة مليون نسخة ليقود عبر موسيقاه ثورة بيضاء، ويدعم بفنه أطفال إفريقيا وفقراء العالم، داعياً الانسانية للترابط والتكافل والتراحم ونبذ الأحقاد والكراهية. لذلك كان محبوباً من قبل مئات الملايين من البشر، وكان له قبول واعجاب فذ من قبل العالم كله، لاسيما البيض والسود في الولايات الامريكية. لذا لم يكن غريباً قط أن يقود جاكسون بموهبته وموسيقاه وفنه الجميل، قطار اوباما، الى البيت الأبيض، ليصبح اوباما وزوجته ميشيل، سيّدَي الولايات المتحدة !
*
اضافة التعليق