بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة لا يمكن سياسياً، وعلمياً ولا حتى اخلاقياً، عقد أية مقارنة بين مقرات الحزب الشيوعي العراقي، ومقرات حزب البعث، مادامت بنية ومنهج وفكرة وسلوك وأهداف ووسائل منظومة حزب البعث، لاسيما مفاصلها القيمية والفكرية والطبقية، تختلف اختلافاً كلياً عن منظومة الحزب الشيوعي العراقي .. فالمقارنة تعرّف بأنها محاولة لتوجيه الانتباه إلى شيئين أو عدة أشياء من جنس واحد، وفي لحظة واحدة، لمعرفة واكتشاف ما بينها من تشابه وتماثل واختلاف، بهدف التوصل إلى الحقائق واستخلاص النتائج والدلالات من خلال هذه الموازنة بين تلك الأشياء.. فالمعادلة بين طرفين مختلفين في كل شيء، هي معادلة غير سليمة ولا متوازنة بالمرة.. لأن القاعدة العلمية لا تسمح بعقد مقارنة بين جنسين ونوعين متضادين كالبحر والسيارة مثلاً، أو بين الجبل والسينما، أو بما يشبه الكثير من هذين المثالين.. وباختصار يمكن القول، إن المقارنة لا تعقد إلا بين شيئين من نوع واحد.. وبما أن (نوع) البعث يختلف اختلافاً جذرياً عن (النوع) الشيوعي، فقد أصبحت المقارنة بينهما باطلة تماماً.. لا أريد في هذا المقال المحدود أن أذكر العراقيين بطبيعة مقرات حزب البعث البوليسية، والارهابية، سواء أكانت هذه المقرات مباني أو ممارسات أو سلوكاً او ثقافة، فهي ليست أكثر من (دوائر) وأقبية تشبه الى حد ما دوائر الأمن العامة.. حيث ستجد فيها كل ما يتوفر في مديريات وأقسام أجهزة الأمن والمخابرات من معتقلات، وسراديب، وأدوات بوليسية، ورعب، وجلادين، وهراوات و(تواثي) ودم، وأسلحة، وثقافة لا علاقة لها بمفردات الثقافة الفكرية والتنويرية لحزب يفترض أن يكون ذا رؤىً وتوجهات فكرية وسياسية طليعية، لكن مقرات البعث لم تكن سوى ملاحق فاشية تتبع خطى الأجهزة الأمنية الصدامية!. فأي حزب هذا، وأي مقرات حزبية، تربت فيها أجيال البعث؟! وكي أكون واضحاً، فانا هنا لا أتهم المقرات البعثية اتهامات باطلة، ولا أدعي بما ليس هي فيه، إنما أتحدث، وفي خزانة قلبي وعقلي عشرات الحكايات المؤيدة بالشواهد، والموثقة باسماء أبطالها الذين مازالوا أحياء يرزقون.. وسأروي اليوم واحدة من هذه الحكايا بالاسماء الصريحة.. وقبل أن أروي ذلك، يجدر بي أن أقول إن سبب كتابتي لهذا المقال يعود الى بدء العمل وانطلاق البناء في المشروع الوطني الكبير المتمثل بمقر الحزب الشيوعي العراقي.. وطبعاً فإني هنا -وكما قلت - لن أعقد مقارنة بين مقرات الحزب الشيوعي ومقرات حزب البعث، فشتان ما بين الاثنين، لكني ساكتفي بنشر النص الغنائي الذي كتبته بعنوان، (مقر الشعب)، فهو برأيي كاف للتعبير بصدق عن القيم الجمالية لمقر الحزب الشيوعي العراقي.. وقبل أن تطلعوا على هذا النص الغنائي، تعالوا معي الى قصتي مع مقر حزب البعث (شعبة الحمزة) في مدينة الثورة، وتحديداً في عام 1986: في ليلة قائضة سمعت طرقاً شديداً على باب بيتنا في قطاع 43 بمدينة الثورة، وحين فتحت الباب، وجدت صديقي العزيز علي مانع ( أبو ايفان) - الهارب من الجيش، وهو يدفعني بقوة الى داخل البيت، وهو يتمتم قائلاً: الحگ لي يا فالح .. رجلي انكسرت .. البعثية والجيش الشعبي داهموا البيت، وذبيت نفسي من السطح.. ورغم اصابة رجلي گدرت أفلت منهم). فقلت له: (وهل تظن أن بيتنا آمن، فنحن مراقبون ايضاً، ووضعنا أسوأ من وضعك، وأكيد هسه راح يجون وراك، فهم يعرفونك صديقي)! فقال: لا ما يعرفون بيك صديقي.. ولا هم يعرفوك أصلاً !! فضحكت وقلت: ( طاح العريان على الموزّر )! أصعدت صديقي الى غرفتي في الطابق الثاني - وبدأنا بالماء الحار عملية معالجة رجله التي أصيب (رسغ) قدمه اليمنى وتورم ورماً كبيراً، فهدأ قليلاً ونام. وفي الصباح، اتصلت بنا شقيقته، تسال عنه، فأخبرتها بوجوده عندي.. فقالت- وقد كانت تعمل موظفة - راح أشوف له واسطة بالدائرة، لان امي مريضة وممكن تموت بأي لحظة إذا صار شي على ابنها وحبيبها علي ! وفي المساء جاءت شقيقته وهي فرحة، حيث تمكنت بواسطة مديرها - البعثي- من إقناع المنظمة الحزبية، بعدم التعرض له اذا التحق بالجيش خلال 48 ساعة، شرط أن يكفله موظف في الدولة كفالة رسمية! لكنّ علياً رفض ذلك، وهو يقول: لن أذهب للحرب وادافع عن نظام صدام لو ينصبون مشنقة بالباب! وبعد جهد جهيد، تم اقناعه بالذهاب الى وحدته في الجبهة، واسقاط حجة المنظمة الحزبية في قطاعه، ورفع المراقبة عنه وعن بيته، بعد أن يجلب كتاباً من وحدته يشير الى التحاقه، وقد تقرر أن أتكفله لدى كاتب العدل، باعتباري موظفاً في الدولة! وهكذا تم الأمر، وأنجزنا المهمة، حيث قامت شقيقته بتقديم صورة من الكفالة الرسمية الى منظمة البعث في الشعبة الحزبية، وعاد علي الى بيته، لكي يلتحق في اليوم الثاني بوحدته في الجبهة حسب الاتفاق، لكن (أبو ايفان) لم يلتحق، لا في اليوم الثاني ولا في اليوم العاشر، فقد كان لديه موقف فلسفي من المشاركة في الحرب . وما أن رآه البعثيون وهو يدخل ويخرج من البيت حتى جن جنونهم.. وفي ظهيرة يوم صيفي حار، جاءت مفرزة حزبية بسيارة لاندگروز بيضاء، وأخذتني مكبلاً الى شعبة الحمزة، التابعة لفرع مدينة الثورة، ووضعتُ في موقف (سجن) داخل هذه الشعبة ! وبعد أن قضيت ليلتين في هذا الموقف، وأنا أرتدي (بدلة ورباط) في هذا الحر القاتل، رأيت شخصاً أعرفه، واسمه قاسم يعقوب - شقيق صديقي لاعب فريق اتحاد فيوري طارق يعقوب الملقب طارق جمهورية- ويبدو أن له كلمة مسموعة في الشعبة، فناديت عليه، واخبرته بعلاقتي الطيبة بشقيقه، ورجوته أن يعرض امري على الشخص المسؤول، فانا صحفي معروف، ولم ارتكب جريمة، فقد كان غرضي من الكفالة نبيلاً، حيث أردت تشجيع صديقي للالتحاق بوحدته، وليس لخداع المنظمة وافلات صديقي كما يدعي المسؤولون هنا.. فوعدني خيراً.. وفي المساء نادوا على اسمي، واصطحبوني الى مسؤول الشعبة واسمه ( الدكتور وليد) .. وللحق فأن هذا الرجل يختلف عنهم جميعاً، فقد كان ودوداً معي ومتفهماً.. وما ان حكيت له القصة، حتى ابتسم وقال: شوف استاذ فالح، هذي اضبارتك أمامي، وهي كما تراها كبيرة، ونحن نعرف كل شيء عنك وعن عائلتك .. ونعرف أنك والهارب علي مانع شيوعيان قديمان، وصديقك هذا من جماعة الشيوعي (المعدوم) بشار رشيد، وكان لاعباً في فريقه، وإن ما قمت به مخالفة قانونية جسيمة. وراح يتحدث عن عواقب ( الجريمة) التي ارتكبتها من خلال التستر على مجرم و( خائن) للوطن ! قلت له: إن العقوبة على الكفالة التي وقعت عليها، هي عقوبة مالية محددة، وأنت دكتور وتعرف ذلك.. لذا دعوني أدفع الغرامة.. وأنهي المشكلة.. فضحك، وقال: لا، فنحن في حرب، والقوانين تختلف في زمن الحرب، لذا سنعطيك فرصة أمدها ثلاثة أيام، لكي يلتحق ( رفيقك) وإلا فستكون مسؤوليتك هذه المرة كبيرة جداً.. فوافقت طبعاً، وغادرت (معتقل) شعبة الحمزة الحزبية.. وفي الليل، زارني علي في البيت، واتفقنا على ان يلتحق بوحدته، ويجلب كتاباً منها، وينقذني من هذه الورطة، ثم يهرب بعدها إن أراد ذلك.. وفعلاً التحق علي مانع بوحدته، وجلب الكتاب المتضمن التحاقه، وسلمه الى الشعبة الحزبية، ولم يذهب بعدها الى وحدته حتى كتابة هذا المقال !! إن ما عانيته من أذى ورعب وارهاب في اليومين اللذين قضيتهما في هذا الموقف يفوق الوصف، خاصة وأن الموقف كان مزدحماً بالموقوفين.. فهل هذا مقر لحزب (طليعي) أم معتقل من معتقلات ناظم گزار وعلي كيمياوي! ختاماً .. أود أن أشير الى أن نص أغنية (مقر الشعب) منشور في الصفحة الأخيرة من هذا العدد، حيث ارتأى الزميل المصمم وضعه هناك، بسبب ضيق المساحة المقررة للافتتاحية ..
نص الأغنية:
مقر الشعب
نص / فالح حسون الدراجي
لتشيٌدونه بحجر .. بدلوا الحجر بلور .. هذا المقر مو مقر .. هذا منارة نور .. هذا قصيدة وشجن.. بيت وملاذ ووطن .. بستان هذا المقر والشعب بيه ناطور .. ———— هذا المقر مدرسة .. بيه تدرس الأجيال .. وهذا المقر مكتبة .. للفلح والعمال .. هذا المقر بيه شمس.. زفة انجوم وعرس.. ع الباب تلگه الصبح واگف الف عصفور ————— حزب الشغيلة شرف .. غيرة وبخت واحساس .. وحگ الله باب المقر .. صبح ومسه ينباس .. مثل الشمس والگمر .. ومثل الهوا والمطر.. للشعب هذا المقر .. والشعب بيه ناطور للناس هذا المقر .. والناس اعظم سور
لتشيدونه بحجر .. بدلوا الحجر بلور .. هذا المقر مو مقر .. هذا منارة نور..
*
اضافة التعليق