بغداد- العراق اليوم: فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة عندما فاز باراك أوباما لأول مرة، برئاسة الولايات المتحدة الامريكية في انتخابات عام 2008، خرج السود عن بكرة أبيهم الى شوارع الولايات الامريكية، وهم يرقصون فرحاً، ليس لشخص اوباما، انما لأن معجزة قد تحققت، إذ من كان يصدق أن فتىً أسود سيصبح رئيساً لأمريكا!.. (امريكا) التي أذاقت السود مر العذاب طيلة عقود التمييز العنصري.. ورغم ان اوباما ينتمي للحزب الديمقراطي، إلا أن السود جميعاً ابتهجوا وفرحوا، بما فيهم الذين ينتمون للحزب الجمهوري - حزب المرشح الرئاسي الخاسر جون ماكين -! ولا ابالغ لو قلت، إني أحسست بذات شعور السود حين فاز ابن ولايتي (العمارة) محمد شياع برئاسة الحكومة العراقية في 28 / 10/ 2022. وللحق، فأني لم أفرح لـ (شخص) السوداني، بقدر ما فرحت للمدينة التي أنجبته.. فالرجل لا يهمني ولا يعنيني شخصه، لكن الذي يعنيني، أن يصل أحد أبناء محافظة العمارة الى موقع رئاسة العراق.. العمارة.. المدينة المظلومة والمحرومة، والمهمشة، بل والمنسية، التي لا يتذكرها زعماء السياسة، وقادة الحروب، وتجار الانتخابات، إلا عند الحاجة اليها ولأبنائها الغر الأشاوس.. بعدها يعود كل شيء الى ماكان عليه.. فالسياسيون، والقادة، يمضون لمواقعهم ومراتبهم، وقصورهم الفارهة، وأبناء (الخايبة) يعودون لبؤسهم ووجعهم وفجيعتهم ! لقد كانت الحكومات السابقة - واللاحقة - تنظر الى العمارة نظرة ازدراء، وتتعامل مع اهلها كما كان يتعامل الامريكيون البيض مع االسود .. و ( للشروگي) في نظر الأراذل، حدود معينة في سلم مواقع الدولة، وله وظائف (خاصة) لا يجوز العبور فوقها.. وباعتباري (عمايرچي ابن عمايرچي)، فقد عانيت من التمييز المناطقي معاناة كبيرة.. لذلك، كان اختيار (واحد عمايرچي) لمنصب رئيس حكومة العراق امراً يستحق فرح العماريين، بل وكل العراقيين الذين عانوا مثلنا من التهميش. وبما أن محمد السوداني (عماري) المنشأ والماركة والميلاد، فقد كان يوم التنصيب عندي بمثابة العيد أبو هلالين.. وقد يسألني سائل: وماذا يعنيك من فوز (عمايرچي) برئاسة وزراء العراق؟ فأجيب: أنه يعني الكثير، فانحيازي لميسان لم يكن بسبب هويتي العمارية الميسانية فقط، رغم أن الانحياز لمسقط الرأس ليس عيباً، لكن أسباباً كثيرة تجعلني متحمساً لاختيار شخصية عمارية لمنصب رئيس الوزراء .. والمشكلة أن التمييز والتهميش والاحتقار في المعاملة لم يأت فقط من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة، سواء تلك التي شكلها الأتراك العثمانيون العام ١٨٣١، أو التي شكلها المستعمرون البريطانيون وعملاؤهم العام ١٩١٧، أو الحكومات التي شكلها (العروبيون) منذ العام ١٩٦٣ حتى العام ٢٠٠٣ ، وطبعاً فإن الحكومات (العروبية) لا تقل سوءاً في التعامل عن غيرها إن لم تكن أشد سوءاً وحقارةً، ويكفي أن يكون من بين قادتها، عبد السلام عارف، وطاهر يحيى، واحمد حسن البكر، وصدام، وخاله (المبتذل) خير الله طلفاح .. وهلمّ جرا ! لقد حصل بعض سوء التعامل مع أهلنا من قبل هذه الحكومات وأجهزتها ومن بعض المواطنين العراقيين ايضاً للأسف! وفي ذاكرتي، وصندوق صدري، عشرات الحكايات التي تقطر مراً ومرارة، لكن المجال لايسع لها هنا .. فمرة زارني (فنان) عراقي مع زوجته في بيتنا، وكان هذا الفنان من احدى محافظات جنوب العراق.. وحين سالته زوجتي قائلة: هل جنابك من (العمارة)؟ فانتفض مثل الملدوغ، وهو يقول بطريقة ساخرة واسلوب هازئ: ع م ا ر ة.. أنا من العمارة؟ لا يا أختي، أنا من المحافظة الفلانية! ويبدو ان زوجته التي كانت ترافقه قد أدركت (چفصة) زوجها .. فنظرت له نظرة فهم معناها.. لذا حاول تدارك الخطأ، فسأل زوجتي قائلاً: ليش أستاذ فالح من يا محافظة؟ فقالت له زوجتي بنفس طريقته واسلوبه: أنا وأبو حسون من الـ (ع م ا ر ة). فسحب زوجته هارباً، ولم نر وجهه مذ تلك اللحظة! قد أفهم سبب عداء الحكومات والاجهزة التنفيذية السابقة للعمارة ولأهلها الشجعان، لكني لا أفهم قطعاً سبب النظرة القاصرة والمتخلفة، بل وغير الودية التي ينظرها بعض - أقول بعض - أبناء المحافظات العراقية.. حكى لي صديق كان يعمل مترجماً باحدى السفارات الأوربية في بغداد،عن لقاء تم بين السفير ، واحدى الشخصيات السياسية - الدينية البارزة. يقول صاحبي: بعد انتهاء الاجتماع، أراد (السيد) ان يجاملني، فقال: احسنت، لقد كانت ترجمتك فاخرة، ثم اكمل قوله متسائلاً: من أي مدينة عراقية جنابكم؟ فقلت له: أنا من العمارة .. فابتسم السيد وقال: ما شاء الله، ماشاء الله من العمارة، وهيچ تترجم ؟! يقول صديقي المترجم: ما أن سمعت تعليقه حتى أدرت وجهي عنه ومضيت. لقد استكثر (السيد) على شاب (من العمارة) أن يترجم بمهارة واقتدار. ولا أدري إن كان هؤلاء يعرفون ان العمارة مدينة عظيمة لها معنى ودلالة في التاريخ، ولها حضور مجيد، فقد قدمت للعراق وللعالم أفذاذاً عظماء، أفادوا العراق والبشرية عموماً مثل العالم الفيزيائي عبد الجبار عبد الله الذي اكتشف عين الإعصار، لينقذ أمريكا والعالم من خطر وشرور الاعاصير .. وقدمت الطبيب الجراح محمد عمارة وغيره، كما قدمت مدينة العمارة للثقافة والفنون العراقية والعربية أسماء لامعة، لا يمكن للمشهد الثقافي العراقي أن يكتنز بهذا الثراء دون منجزها، مثل حسب الشيخ جعفر، ولميعة عباس عمارة، وعبد الرزاق عبد الواحد، وعيسى الياسري، ومالك المطلبي، ومحمد شمسي، ومحمد شاكر السبع، وكاظم اسماعيل الكاطع، وشوكت الربيعي، وصبيح كلش، وسميرة مزعل، ومحمود حمد، وسعدون جابر، وقحطان العطار ومسعود العمارتلي، وسلمان المنكوب، وسيد محمد، وعبادي العماري، وعبد السادة العلي، وريسان الخزعلي، وكاظم غيلان، ونعمة مطر، وقاسم الفرطوسي، ومطشر المجراوي، وفاضل خليل، وانعام الربيعي، وكاظم فندي، واللاعب الكبير فلاح حسن، والشهيد الشيوعي ستار خضير ، والشهيد عبد الكريم كاظم - احد ابطال انتفاضة حسن السريع- ومئات الأقمار والنجوم التي سطعت في سماء العراق.. كما أن العمارة التي هي موطن الحب والتعايش الديني والقومي، فخورة بنسيجها الموزائيكي، إذ يكفي أن تقام على ارضها اقدم كنيسة في الجنوب عام 1880 وكنيسة مار يوسف البتول للسريان الكاثوليك التي تأسست عام 1940.. وفي العمارة بيوتات يهودية كانت مثالاً للتعايش الديني، وهي أيضاً موطن أهلنا الصابئة المندائيين، فضلاً عن كونها حمامة سلام الإسلام والمسلمين، بجناحي الشيعة والسنة. ناهيك من تعايش مختلف القوميات واللغات فيها .. كيف لا أفرح إذن بوصول شخص عماري لرأس السلطة في العراق، وأنا أتذكر احد معارفنا (ناهي)، الذي كان في مطلع الستينيات رئيس عرفاء في حامية الحلة العسكرية .. وقد كان ناهي مثالاً في الالتزام والاخلاق واللياقة البدنية، حتى كان يلتحق بوحدته قبل انتهاء اجازته بيوم، وحين يساله زملاؤه عن سبب عودته قبل انتهاء اجازته؟ كان يقول: (خاف الحامية تحتاجني)! وكان آمر حامية مواقع الحلة شخصاً كردياً برتبة زعيم (عميد)، وللحق فقد كان هذا الآمر يحب رئيس عرفاء ناهي كثيراً.. لكنه كان يرفض ادراج اسمه في جداول الترقية، رغم استحقاقه! وفي أحد الأيام دخل ناهي على الآمر، ليسأله بحزن قائلاً: سيدي آني مستحق رتبة نائب ضابط من سنوات.. أگدر اعرف ليش سيادتك ما تدرج اسمي وترفّعني؟! نهض الآمر، وقال:- إنت من العمارة مو؟ فقال ناهي: نعم ، من العمارة سيدي ! فقال له مبتسماً: شوف بابا.. انتم اهل العمارة حدكم بالترقية لرتبة رئيس عرفاء وتوگفون، أي ليش تريد تخربط النظام، وتخرب الخريطة ؟!
*
اضافة التعليق